بقلم : أحمد عبده طرابيك
تعتبر العالمة عايدة إيمان قولييفا ، أحد أهم رواد علم الاستشراق في العالم ، فقد أسهمت أبحاثها العلمية ، وأعمالها الأدبية بشكل كبير في وضع حجر الأساس لدمج الفكر الفلسفي العربي بالعالم ، فقد أطلعت العالم الغربي على اللغة العربیة والأدب العربي الحدیث والثقافة العربية ، بموهبتها العلمية ونشاطها الاجتماعي الكبير ، فمدت جسوراً من العلاقات والتواصل بين العالم العربي والعالم الغربي ، فكشفت
عن كنوز الأدب العربي ، وأزالت الكثير من المجهول عن الفكر والثقافة العربية.
ولدت عايدة إيمان قولييفا في باكو في العاشر من أكتوبر 1939، لعائلة نبيلة لها مكانة رفيعة في تاريخ الحركة النسائية في أذربيجان ، حيث كان والدها كاتب وصحفي بارز ، وأحد أهم مؤسسي وسائل الإعلام في أذربيجان ، الأمر الذي ساعدها علي الاتجاه إلي الانفتاح علي الثقافة والأدب العربي ، فكانت أول امرأة أذربیجانیة تعمل في مجال علم الاستشراق ، فتفوقت في في هذا المجال ، حتي صارت أحد أهم رواد ذلك العلم ، ومن ثم تبوأت مكانة مرموقة بين زملائها في هذا االمجال ، فشغلت منصب مدیر معهد الدراسات الشرقیة التابع للأكادیمیة الوطنیة للعلوم ، كما أنھا كانت أول امرأة تحصل على درجة الدكتوراة في علم اللغة ، وأول باحثة في أدب المھجر في أذربیجان ، وكانت عضوا في جمعیة المستشرقین ، وعضوا في مجلس التنسیق في بحث ودراسة الأدب الشرقي في الاتحاد السوفیتي.
كانت باكو عاصمة جمهورية أذربيجان ، والتي كانت إحدي جمهوريات الاتحاد السوفيتي من أهم المدن التي اهتمت بالاستشراق خلال العهد السوفيتي ، وذلك باعتبارها عاصمة لجمهورية إسلامية ، ولدي شعبها الكثير من العادات والتقاليد والقيم المشتركة مع الشرق من خلال ما يربط بينهم من روابط العقيدة الإسلامية ، إلي جانب أنها كانت تعد من أهم المدن السوفيتية من النواحي الاقتصادية والثقافية والحضارية ، ومن ثم فقد ازدهر علم الاستشراق في أذربيجان ، وتأسس بها معهد الاستشراق ضمن أكاديمية أذربيجان الوطنية للعلوم ، الذي كان مدرسة تخرج منها علماء أثروا المكتبة الغربية بعلوم الشرق.
ازدهر الأدب العربي في مطلع القرن العشرين بشكل واسع ، وكان له مساهمات وأثر كبيرين في تقدم الآداب العالمية ، حيث اهتم الأدب العربي بالجوانب الروحية والأخلاقية لدي الإنسان ، حيث اهتم بالمثل العليا والقيم السامية والرقي بالنفس البشرية ، لذلك اتصل انتشر الأدب العربي وزاد الاهتمام به من قبل العالم الغربي ، خاصة بعد ازدهار الأدب العربي في المهجر . قدمت قولييفا اسهامات ھائلة في مجال انتشار ودراسة اللغة والثقافة العربیتین والأدب العربي ، باعتبارها أكاديمية مرموقة لها تأثير علمي كبير في هذا المجال ، ومثالا مشرفا لمدرسة علماء الاستشراق ، الأمر الذي جعلها مشاركاً دائما في مختلف المحافل الدولية ، بعد أن سخرت جل جهودها العلمية لموضوعات البحث في تاریخ الأدب العربي والشرقي وعلوم اللغة العربية .
اهتمت عايدة قولييفا بدراسة أدب المھجر الذي ازدهر علي نطاق واسع ، وكان له مدرسة أدبية تعرف بهذا الاسم " أدب المهجر " ، حيث اهتمت تلك المدرسة باظهار الجوانب الرومانسية في الأدب العربي ، والتي لم تكن معروفة من قبل ، وكان ذلك دافعاً لأن تولي الأكاديمية قولييفا اهتماماً علي التطور الفلسفي للرومانسية العربية الجديدة ، ومن ثم فهم ومعرفة الأدب العربي الجديد ، والكشف عن البعد الإنساني في الأدب العربي الحدیث ، وتوضيح الاتجاه الجديد للأدب العربي في الابتعاد عن القوالب التقليدية ، والابداع في ظهور الرومانسية الأدبية شعراً ونثراً
. يحسب للدكتورة إيمان قولييفا أنها كانت مستشرقة تخوض بالمنهج العلمي الرصين عن التأثیر المتبادل والروابط الأدبیة المتبادلة بین الثقافات الشرقیة العربية والغربیة ، فقد قدمت بالبحث والتحليل البرهان علي تطور الأسلوب الإبداعي ، وظھور اتجاھات أدبیة جدیدة ، وكان لهذا أثر كبير في وجود قواسم مشتركة للبحث في التوجه الجديد للأدب العربي ، حيث انعكس إبداع الأدباء العرب في المهجر وفي مقدمتهم ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران ، الذین أسسوا " رابطة القلم " في الولايات المتحدة الأمريكية ، حيث كان لهم بصماتهم الواضحة علي نشأة الرومانسية في الأدب العربي الحديث.
لقد شيدت البروفيسورة عايدة إيمان قولييفا جسوراً قوية من علاقات الصداقة بين أذربيجان والعالم العربي ، وطلابها الذين تأثروا بعلمها ومدرستها في علم الاستشراق ، وساروا علي دربها يشكلون الآن امتداداً لذلك الجسر الذي شيدته ، والذي كان من نتائجه ازدهار العلاقات بين أذربيجان والعالم العربي بشكل كبير لم يسبق له مثيل ، حيث يعمل زملاء وطلاب قولييفا علي تطوير تلك العلاقات بتواصلهم مع مختلف المؤسسات في العالم العربي بما يحقق المصالح المشتركة وتحقيق مستقبل مزدهر مشرق.
اليوم التاسع عشر من سبتمبر ، يوافق ذكر مرور ستة وعشرون عاماً علي رحيل العالمة عايدة إيمان قولييفا ، وهي في قمة عطاءها العلمي والأكاديمي بعد حياة حافلة بما قدمته من مؤلفات ودراسات كان لها أثر كبير في نقل صورة حقيقية وواقعية عن العالم العربي إلي الغرب ، ولا نملك في هذه الذكري الأليمة سوي التضرع لله سبحانه وتعالي أن يتغمدها بواسع رحمته ، وأن يجعل ما قدمته من علم في ميزان حسناتها ، فقد انقطع عملها من الحياة الدنيا ، لكن ما زال علمها ينتفع به من طلابها ودارسي وباحثي علوم الشرق .