كتبت هدى شديد في "النهار": كثيرة هي العناوين الانقسامية التي تنتظر الحكومة العتيدة، وكثيرة الاختلافات بين المكونات التي يفترض ان تتشكل منها، ولا سيما ان الانتخابات النيابية أفرزت نتائج لا يمكن تجاوزها في التأليف. فهي كرست توازناً سلبياً لا يمكن ترجمته الا بواقعية سياسية تجمع الأضداد في ائتلاف حكومي وفي عملية ربط نزاع حول كل الملفات الخلافية، الى ان تنكسر هذه المعادلة بطريقة أو أخرى.
حتى الآن، لم يتجرأ أحد على القول إن عقد التأليف ليست فقط حول تقاسم حصص او حقائب، وان هذه الظواهر ليست الا انعكاسات لما يرسم للحكومة المقبلة من سياسة وعناوين هي في الظاهر داخلية، وفِي الجوهر إقليمية. عندما قال الرئيس المكلّف سعد الحريري إنه لن يسمح بالعودة بالعلاقة مع سوريا الى ما قبل 2005، إنما رفع صوته في وجه كل من يسعى الى فرض سياسة التطبيع مع النظام السوري على الحكومة المقبلة، بعدما غضّ النظر عن سياسة الامر الواقع التي انتهجها حلفاء سوريا في الحكومة السابقة. وعندما جاهر بأن الحكومة لن تتشكَّل اذا كان هذا الفريق يسعى لتكريس سياسة التطبيع فيها، انما اخرج الى العلن حقيقة المأزق السياسي- الدستوري الذي تقف أمامه عملية التأليف. صحيح ان الخسائر جراء هذا المأزق لا تقتصر على عهد رئاسي بنى طموحاته على اول حكومة تعقب الانتخابات ولا على رئيس مكلّف مكُبّل بشروط وشروط مضادة من خصوم سياسيين يتنازعون مقاعد حكومته قبل جلوسهم حول طاولتها، ولا على قوى سياسية تتجاذبها عواصف المحيط القريب والبعيد في غياب أي رؤية واضحة. ولعلّ أصعب ما في المعادلة السلبية المتحكّمة في المأزق الحكومي هو ان أي بديل من الرئيس سعد الحريري في هذه الحقبة ليس متوافراً، الا في حال ذهاب الفريق الرئاسي مع فريق الثامن من آذار نحو المواجهة الكبرى بما يحكى همساً عن سحب التكليف من الحريري، وعندها لن يكون بديل الا مرشح مواجهة شاملة من احد النواب السنّة المحسوبين على فريق الثامن من آذار. وما كان متاحاً في المرحلة السابقة بتسمية الرئيس نجيب ميقاتي كوسطي ومن ثمّ الرئيس تمام سلام كشخصية زَكَّاهَا "المستقبل"، ليس وارداً في الظرف الراهن. وأول من بادر الى قطع الطريق على أي خيار خارج الحريري، كان ميقاتي، رغم ان الانتخابات أعطته كتلة من اربعة نواب (فيها الماروني والارثوذكسي والعلوي) تخوّله قبل أي شيء آخر الحصول على مقعد في الحكومة، فأظهر زهداً بالمقعد الوزاري قبل منصب رئاسة الحكومة. هذا المسار تختصره اوساط رئيس الحكومة الأسبق بتفسيرها خطواته على الشكل الآتي:
أولاً- عندما فاجأ ميقاتي من كانوا شركاءه في حكومته السابقة، بمشاركته في اجتماع رؤساء الحكومات السابقين عند الرئيس المكلف، لم يكن هدف ميقاتي الوقوف طرفا مع الحريري ولا الدخول في اصطفاف في مواجهة أطراف آخرين، انما انطلق من اولوية لديه في عمله السياسي في الحفاظ على مقام رئاسة الحكومة، كما على سائر المقامات الدستورية في البلد، ولم يكن ذلك من منطلق شخصي تجاه الرئيس الحريري، ولاسيما ان تجربته مع الحريري وفريقه لم تكن مشجعة لا قبل رئاسته للحكومة ولا في أثنائها. فميقاتي يتعالى في كل خطواته عن الاعتبارات الشخصية، وهو أراد من مشاركته في هذا اللقاء توجيه رسالة مزدوجة، بدعمه للرئيس المكلف وبتمسكه باتفاق الطائف في مواجهة محاولات خلق أعراف جديدة، ورسالة ثانية واضحة وان بطريقة غير مباشرة للرئيس الحريري وفريقه أنه لا يتعامل معهم بالمثل على قاعدة "انا أو لا أحد"، وان تقتصر ايجابيتهم على زمن وجودهم في السلطة فيما ينتهجون السلبية ما ان يخرجوا منها.
ثانياً - عندما امتنع ميقاتي عن المشاركة في التكتل النيابي الذي بدأ يتكوّن منذ اجتماعه لدى رئيس "تيار المردة" سليمان فرنجية، انما بسبب التزامه خيار ألا يكون جزءاً من الاصطفافات السياسية، وبغض النظر عن أهداف هذا اللقاء، الذي كان واضحاً أن طريقة تشكيله كانت جزءاً من الاصطفاف السياسي الذي عاد يتكوّن في البلد بعد صدور نتائج الانتخابات النيابية وبعد الكلام الكبير الذي بدأ يصدر عن خيارات سياسية للحكومة المقبلة.
ثالثاً- من الطبيعي ان لدى كل من يعمل في الشأن العام طموحات تصب في خدمة المصلحة العامة، ولكن الاكيد أن ميقاتي لا ينطلق من ان منصب رئاسة الحكومة اولوية، او انه مستعد للقيام بكل شيء للوصول اليه.
وتذكّر اوساط ميقاتي بأنه فِي كل مراحل الاصطفاف التي شهدها البلد، لم يغيّر نهجه، واستمر في وسطيته. وقد ثبت انه لم يعمل ليرضي أي طرف، رغم ان كل طرف سعى الى جذبه في اتجاهه. وهو بتوليه رئاسة الحكومة في المرحلة السابقة انما سعى الى إخراج البلد من مأزق خطير بأقلّ الأضرار الممكنة، والدليل هو العودة الى الخيارات السياسية التي انتهجها في تلك المرحلة، وأبرزها النأي بالنفس الذي يطالب به اليوم الفريق السياسي نفسه الذي كان معارضاً له آنذاك عندما اطلق على "النأي بالنفس" وصف "اللعي بالنفس". كما ان الفريق السياسي الذي كان رافضاً النأي بالنفس وقبل به على مضض، يحاول اليوم بكل الطرق التملّص من هذه السياسة بهدف أخذ البلد في اتجاه خيارات اخرى.
وتعتبر اوساط ميقاتي ان من ابرز تداعيات عدم التزام سياسة النأي بالنفس التي أرساها، ما نشهده اليوم من تعقيدات أساسية تعوق تشكيل الحكومة. والمؤشرات لا توحي بولادة حكومية قريبة. حتى وان تمت هذه الولادة بضغط او بتسوية معينة فسيقع المشكل في المرحلة المقبلة بسبب الانقسام في الخيارات السياسية التي تبدو أكبر وأعمق بكثير من مجرد خلاف على حصص أو حقائب.
تتوقف أوساط ميقاتي عند ما يتم تداوله في الصالونات السياسية،من كلام عن سحب تكليف وعن ان المهلة محددة وليست مفتوحة، وتؤكد تمسّك ميقاتي بالدستور وتحذيره من المسّ بالتكليف، لا بحكم القانون ولا بحكم الامر الواقع، وبعدم اللجوء الى خلق أعراف جديدة منطلقها الانقسام في البلد، لأن أي محاولة للمسّ بالدستور في هذا الظرف قد تدخل البلد في متاهة لن يعرف احد كيف يكون الخروج منها.
"أي حكومة لأي مرحلة ولأي هدف"، هو عنوان مأزق التأليف، كما تختصره اوساط ميقاتي. فهذا هو جوهر المشكلة، والباقي تفاصيل.