اختار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، التاسع من الشهر الجاري، لزيارة برلين، وهو يوم له بريقه في الدوائر الأوروبية، ويطلق عليه "يوم أوروبا" لأنه يمثل ذكرى توقيع إعلان شومان، الذي يدعم السلام بين دول أوروبا، في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتعد أوروبا كما يراها ماكرون مخالفة تماما لأوروبا في رؤية الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.
وقال ماكرون إن بلاده، مع ألمانيا، يمكنهما، تحقيق المأمول، في جعل أوروبا، أكثر استقلالية، وأكثر قوة، وديمقراطية، ووحدة، بحيث تصبح القارة قادرة على مواجهة التحديات التي تجابهها، حاليا.
ومن المعتاد في ألمانيا، وفرنسا أن يقوم قادة البلدين، بزيارة بعضهم البعض، في أول زيارة رسمية، بعد الانتخابات، وهي خطوة رمزية تعبر عن التضامن، أو على الأقل هذه هي الرسالة التي يرغب البلدان في توجيهها للعالم.
عندما جاء ماكرون إلى برلين للمرة الأولى عام 2017، كان سياسيا مبتدئا مقارنة بالمخضرمة، أنغيلا ميركل، لكن خليفتها أولاف شولتز، تعامل ببطء وتراخ مع العقوبات المفروضة على روسيا، وإمدادات الأسلحة، لأوكرانيا، وهو ما تسبب في غضب مواطنيه في الداخل، وحلفائه في الخارج.
ألمانيا وضعت مخاوفها التاريخية، والطبيعية، جانبا، وبدأت شحن كميات من الأسلحة، لأوكرانيا، ووضع شولتز القوات المسلحة في وضع تأهب، مبكرا، خلال الأزمة، علاوة على تعهده باستثمار 85 مليار دولار، في تطوير القوات المسلحة الألمانية، وزاد نسبة الإنفاق العسكري، إلى 2 بالمائة، تلبية لطلب حلف شمال الأطلسي،"الناتو، لكن التذمر، والتباطوء الألماني، في اتخاذ أي خطوة فعلية، أعطى الانطباع أنها، متقاعسة، ومتراجعة إلى الصفوف الخلفية، عندما آن الأوان لتشكيل تحالف لمواجهة الروس.
وجدت ألمانيا نفسها في خضم الصراع الدبلوماسي والعسكري والاقتصادي وأزمة الطاقة في أوروبا حاليا - بينما يكتشف قادة الاتحاد الأوروبي، واحدا تلو الآخر، أن روسيا أعادت قارتهم لمواجهة الحرب، وخطر وقوع هجمات نووية- أنها فشلت بصورة جلية، كقوة عظمى، في القيادة، لذلك يعتقد ماكرون أن هذه هي اللحظة المناسبة، لألمانيا، لأن تلعب دور المساعد، بينما يتولى هو المبادرة في الاتحاد الأوروبي.
وعلى الرغم من أن ميركل سحقت حماس ماكرون، الإصلاحي، لكن أفكارة في دعم استقلالية الاتحاد الأوروبي، في مجالات التقنيات الحديثة، والدفاع، والطاقة، وإنتاجية الغذاء، أصبحت تكتسب المزيد من الزخم، نتيجة للعداء الروسي، المتزايد في أوكرانيا، وأزمة سلاسل التوريد العالمية، التي بدأت بعد وباء فيروس كورونا.
وبما أن فرنسا تشغل حاليا مقعد الرئاسة الدورية، للاتحاد الأوروبي، فقد وجه ماكرون خطابا للبرلمان الأوروبي قبل توجهه إلى ألمانيا مباشرة، تحدث فيه عن رؤيته، لمستقبل التكتل، وتضمن ذلك الفكرة، التي لا تعد جديدة كليا، بتأسيس محيط خارجي للاتحاد الأوروبي، من الشعوب الشبيهة، بما فيها تلك التي غادرت الاتحاد، في إشارة إلى بريطانيا، وكذلك الدول الأخرى التي ترغب في الانضمام، مثل أوكرانيا، ودول غربي البلقان.
إن الكثير من المنتقدين، الذين كما يعتقد تدفعهم المصالح الاقتصادية، بدأ صبرهم ينفد من انفتاح ماكرون الدبلوماسي نحو بوتين؛ على الرغم من استياءهم المتنامي، من كون ألمانيا، ضعيفة أكثر مما ينبغي، في مواجهة روسيا.
لقد تقدمت بولندا، ودول البلطيق، مع دول سابقة في التكتل السابق التابع للاتحاد السوفيتي، مثل التشيك، لتقود الناتو، والاتحاد الأوروبي، في القرارات الدفاعية، والعسكرية، خلال الحرب الروسية، الأوكرانيا، كما نهضت المجر أيضا، كمعارض غير متوقع للعقوبات التي يفرضها الاتحاد الأوروبي، ضد روسيا. فرئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، المعروف بعلاقاته الجيدة ببوتين، يعرقل جهود الاتحاد الأوروبي، بخصوص فرض حظر على النفط الروسي، ويرفض التوقيع، حتى تحصل بلاده المعتمدة على مصادر الطاقة الروسية، على صفقة رابحة.
وحاليا، تكتسب فكرة تشكيل جبهة غربية، موحدة، وقوية، لمواجهة بوتين، أهمية بالغة بالنسبة للاتحاد الأوروبي، لكن لا برلين، ولا باريس، تمتلك القوة لإقناع أوربان، كما أن رئيس المفوضية الأوروبية، توجه لبودابست مساء الإثنين، للمحاولة، لكن دون جدوى، وبطبيعة الحال، إن احتفاظ تكتل مكون من27 دولة، في فرض حظر يؤثر بشكل مختلف على كل منهم، يعد تحديا كبيرا، وهو الأمر الذي يراه بوتين، نقطة ضعف.
وعند النظر إلى الماضي القريب لمنطقة اليورو، وخلال أزمة الديون اليونانية، نرى أن ميركل تمكنت من توحيد الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، أو على الأقل تمكنت من إبقائهم جميعا في نفس الغرفة، حتى عثروا على الحل، وعلى الرغم من أنها لم تتلق الحب بسبب ذلك إلا أنها تلقت الاحترام.
والآن، بدأت الشكوك تساور بروكسل حول جدوى مبدأ الالتزام بضرورة إصدار القرارات المتعلقة بالسياسات الخارجية، ومنها العقوبات، التي يفرضها الاتحاد الأوروبي، بإجماع الأعضاء، وفي ظل الظروف الخطيرة، وغير المتوقعة التي يواجهها التكتل حاليا، ينظر البعض إلى هذا المبدأ، على أنه أصبح من الماضي.