لم تعد المواد الثقافية والفنية مجرد مواد للترفيه والتسلية، بل أصبحت تمثل صناعة هامة، ومورداً رئيسياً من موارد الدخل القومي في كثير من الدول التي لها القدرة علي توظيف تراثها الثقافي والحضاري، وابتكار مواد فنية وثقافية وابداعية، وهذا ما جعل كوريا الجنوبية تعكف طول السنوات العشرة الماضية على استخدام تلك المواد الثقافية كمصدر للقوة الناعمة، والتي يطلق عليها الموجة الكورية، حيث شرعت الموجة الكورية الثقافية في توسيع قاعدتها لتشمل، إلى جانب الموسيقى والدراما، التقاليد والقيم والأطعمة والأدب واللغة والتراث، مستفيدة في ذلك من منصات التواصل الاجتماعي.
تعد كوريا الجنوبية واحدة من عدد قليل جداً من الدول، إن لم تكن الدولة الوحيدة في العالم، التي وضعت ضمن أهدافها المعلنة والتي عكفت علي تحقيقها بشكل جدي، هي أن تصبح المصّدر الرئيسي للثقافة الشعبية في العالم، فلقد أدات الأزمة المالية الكبيرة التي تعرضت لها كوريا الجنوبية إلي جانب دول جنوب شرق آسيا بين عامي 1997،1998، إلي تغيير الهيكل الإقتصادي للبلاد، وتنويع مصادر الدخل القومي، والأستفادة من الموروث الحضاري والثقافي الكبير في البلاد، حيث عمل الرئيس السابق كيم داي-جونغ، على التوجه إلي قطاع تقنية المعلومات والثقافة الوطنية والشعبية، باعبارهما المحركين الرئيسيين لمستقبل كوريا الجنوبية، ومن ثم فقد زاد اهتمام الشركات الكورية الكبري تنمية وتقوية علاماتها التجارية، إلي جانب توفير بيئة موائمة للإبداع في مجال الموسيقى والدراما، حيث تم انتاج أفلام تناقش موضوعات مثيرة للجدل أكثر من ذي قبل، وحققت تلك الأفلام رواجاً كبيراً في المنطقة بأسرها، كما أصبحت الدراما الاجتماعية التي تحمل في طياتها خلفية ثقافية مشتركة مع الدول الآسيوية الأخرى، ذات شعبية كبيرة في تلك الدول، إلي جانب نمو الفرق الغنائية الكورية، التي أصبحت بحد ذاتها علامة تجارية عالمية، وهذا ما جعل كوريا الجنوبية تزيد من استثماراتها في مجال القوة الناعمة، بعد أم حققت الكثير من العائدات من هذا القطاع، فقد ذكرت وكالة "يونهاب" الكورية الجنوبية للأنباء، نقلا عن تقرير صدر عن المؤسسة الكورية للتبادل الثقافي الدولي عام 2020، أن صادرات البلاد الثقافية بلغت قيمتها 12.3 مليار دولار عام 2019، بارتفاع قدره 22.4% عن عام 2018. وقد أسهم فريق البوب BTS الغنائي وحده في اقتصاد كوريا الجنوبية بمبلغ 4.9 مليار دولار، وهذا ما يؤكد علي أهمية القوة الناعمة لأي دولة، باعتبارها من أهم الوسائل للترويج للمنتجات الثقافية وزيادة الإقبال عليها في الخارج.
تعمل القوة الناعمة في اتجاهات متعددة، حيث يكون لها تأثير كبير في العديد من الجوانب الإقتصادية الهامة، فقد امتد تأثير الثقافة الكورية ليضيف نحو 20 كلمة جديدة في قاموس اكسفور، من بينها كلمة هاليو Hallyu ، أي الموجة الكورية، وهذا ما يعني أن الثقافة الكورية تزداد تأثيراً وبقوة حول العالم، فبعد أن انتشرت الأغاني الكورية بقوة في منطقة جنوب شرق آسيا، وخاصة في اليابان والصين وتايوان وهونج كونج وسنغافورة وفيتنام، انتقلت إلي مختلف دول العالم، ومنها المنطقة العربية، وأصبحت الفرق الكورية الجنوبية تجتذب جمهوراً كبيراً من المعجبين أينما ذهبوا. حيث أصبحت الفرق الكورية الجنوبية ضيوفاً دائمين علي "موسم الرياض" الثقافي في المملكة العربية السعودية، فقد قدم فريق BTS عروضه في استاد الملك فهد الدولي في الرياض عام 2019، بحضور 60 ألف متفرج، وسيكون جمهور "موسم الرياض" علي موعد مع فرقة "ستراي كيدز"، التي ستحيي حفلاً يوم 14 يناير 2022، في موسم الرياض أيضاً.
ولم يقتصر الحضور الكوري علي السعودية وحسب، فقد قامت كبري الفرق الغنائية الكورية بتقديم أعمال لها في أبو ظبي عام 2016، في إطار مهرجان K-Con، السنوي لموسيقى البوب الكورية، والذي بدأ في الولايات المتحدة، ثم امتد إلى اليابان والإمارات وفرنسا والمكسيك وغيرها من دول العالم.
أسهمت الموجة الكورية الثقافية بمختلف جوانبها القطاع السياحي لكوريا الجنوبية، فقد أسهمت بزيادة أعداد السياح القادمين إلي البلاد بنحو 55.3% عام 2019، ومع زيادة شعبية الأفلام ومسلسلات الدراما الكورية، فإن أعداد السياح الأجانب تزداد تدفقاً من مختلف أنحاء العالم، للإطلاع على ثقافة البلاد عن قرب، وزيارة المواقع التي تم فيها تصوير تلك الأعمال الفنية، وحضور الحفلات الفنائية للفرق الكورية، وهذا ما جعل الحكومة الكورية العمل علي دعم "الصناعة الثقافية بقوة، حيث بدأ العمل في إنشاء مجمع ضخم للثقافة الكورية، يمكنه استضافة 170 حفلاً موسيقياً لفنانين محليين وأجانب سنوياً، حيث يتوقع أن يجتذب ذلك المجمع الثقافي نحو 20 مليون زائر سنوياً، الأمر الذي من شأنه أن يوفر 240 ألف فرصة عمل جديدة، من المقرر أن يكتمل تشييد هذا المجمع بحلول عام 2024، حيث تخطط الحكومة الكورية إلي أن يؤدي ذلك إلى زيادة أعداد السياح القادمين إلي البلاد.
تمتد اسهامات القوة الناعمة في كوريا الجنوبية إلي توفير فرصاً كبيرة لتعريف العالم بالتقاليد والقيم الكورية، ومنتجاتها التقليدية، وأنماط معيشة الشعب الكوري، حيث أصبح هناك توجه عام يقوم عليه صناع الأفلام ومسلسلات الدراما بالتركيز على القيم الكورية، والمجتمع، والمواقع الخلابة التي يتم فيها تصوير تلك الأعمال، وهذا ما عمل بدوره علي توفير فرص جيدة لكوريا الجنوبية لخلق صور جديدة للبلاد عبر أنحاء العالم، بعد أن كانت الصور النمطية التي كانت راسخة في الأذهان من خلال نشرات الأخبار حول الحرب الكورية، والخلافات المستمرة مع كوريا الشمالية، وانهيار المؤسسات التجارية والصناعية الضخمة التي تضررت من الأزمة المالية في أواخر عقد التسعينيات من القرن الماضي، فقد بدأت تتغير تلك الصورة إلي صورة إيجابية تصور كوريا الجميلة المنفتحة المزدهرة، وهذا ينعكس بشكل كبير علي المنتجات الكورية، حيث أصبحت العلامات التجارية الكورية تحظي باهتمام كبير في العالم مثل "هانكوك، هيونداي، سامسونج، كومهو أسيانا، S. OIL، L G، K B S" وغيرها من العلامات التجارية التي تزداد يوماً بعض يوم بفضل الترويج الكبير للثقافة الكورية، فأصبح كل ما هو منتج في كوريا الجنوبية يحظي باهتمام كبير في مختلف دول العالم.