رأت روسيا أن غزو جورجيا عام 2008، هو أفضل رسالة توجهها للغرب، مفاد تلك الرسالة أن جمهوريات الإتحاد السوفيتي السابق تشكل حظيرة خلفية لها، ويجب أن تظل دائماً في دائرة النفوذ الروسي، وأن أوروبا والولايات المتحدة ليس لهما أي حقوق في تلك الدول، وبالفعل وصلت الرسالة، ولم تقدم الولايات المتحدة علي اتخاذ أي اجراءات ضد موسكو كرد علي هذا الغزو، نظراً لأن جورجيا لم تكن تمثل في تلك الفترة أهمية كبيرة لدي الدول الغربية، علي الرغم من أن جورجيا كانت تعلن دائماً عن رغبتها في التحول جهة الغرب، خاصة منذ الإطاحة بالرئيس إدوارد شيفرنادزه عام 2003، لكن لم تستطع جورجيا بمفردها مواجهة موسكو التي كانت تريد الرد علي الغرب عندما اعترف باستقلال كوسوفو، وهو ما عارضته روسيا بقوة، وكذلك رفضها لوعود الناتو لكل من جورجيا وأوكرانيا بعضوية الحلف في قمته التي عقدت في بوخارست في أبريل 2008، علي الرغم من موجود قوات حفظ سلام روسية في إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية.
ظلت روسيا تعتبر أن وعد الناتو لجورجيا بالعضوية، هو أكبر الهواجس التي تواجهها من قبل الغرب، خاصة وأن الغرب استطاع التوسع وضم إليه في تكتليه العسكري "الناتو" والإقتصادي "الإتحاد الأوروبي"، عشرة من الدول التي كانت يوماً ما حليفاً استراتيجياً للقطب الشرقي، منها بعض الدول السوفيتية السابقة "دول البلطيق"، وقد اعتبرت روسيا أن هذا التوسع الكبير غير مقبول بالفعل لها، خاصة أن روسيا في عهد بوتين تري أنها وريث شرعي لقوة عظمى، ويجب أن يكون لها الحق في الحصول علي دائرة نفوذ لها تضم علي الأقل دول الاتحاد السوفيتي السابق.
خاضت روسيا الحرب ضد جورجيا لتحقيق عدد من الأهداف،:
أولاً: القضاء علي سيادة جورجيا على أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا ذات الأغلبية السكانية الروسية.
ثانياً: تعزيز سلطة النظامين الإنفصاليين في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية المواليين لموسكو، وبالتالي منع سيطرة جورجيا على هذه الأراضي إلى الأبد.
ثالثاً: إرسال إشارة قوية إلى الجمهوريات السوفيتية السابقة الأخرى، وفي مقدمتهم أوكرانيا، بأن سعيها للحصول على عضوية الناتو قد تؤدي بها إلى التفكيك والغزو العسكري.
رابعاً: زعزعة استقرار الحكومة القائمة الموالية للغرب، وإضعاف سلطة الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي أو الإطاحة.
خامساً: فرض السيطرة على ممرات الطاقة في جنوب القوقاز، والتي تعد من الأمور الهامة لروسيا لتعزيز سيطرتها علي سوق الطاقة.
سادساً: تنصيب حكومة موالية لموسكو في نهاية الحرب، لتحقيق المزيد من الهيمنة السياسية والمكاسب الإقتصادية.
عبرت القوات الروسية في السابع من أغسطس 2008، الحدود الجورجية ودخلت منطقة النزاع في أوسيتيا الجنوبية، وشنت القوات الروسية غارات ضد القوات الجورجية فيها، بالإضافة إلى الأراضي الجورجية غير المتنازع عليها، ومنها مدينة جوري التي تبعد عن تبليسي بأميال قليلة، وفتحت القوات الروسية والأبخازية جبهة ثانية بشن هجوم على وادي كودوري غرب جورجيا، على الحدود في منطقة أبخازيا الانفصالية الثانية، كما شاركت القوات البحرية الروسية في الغزو، حيث حاصرت أجزاء من السواحل المطلة على البحر الأسود بالقرب من منطقة أبخازيا. وتضمن الغزو عنصر الحرب الإلكترونية، التي كانت المرة الأولى التي تستخدم فيها روسيا الحرب الإلكترونية وعمليات معلوماتية دعماً للعمليات التقليدية، وقد هاجمت الحملة الإلكترونية الروسية حوالي 38 موقعاً جورجياً وغربياً، من بينها مواقع الرئاسة الجورجية ووزارة الخارجية والبنك الوطني والبرلمان والمحكمة العليا والسفارتان الأمريكية والبريطانية في جورجيا.
تركت الحرب جورجيا أكثر انقساماً، مع سيطرة روسيا بحكم الأمر الواقع على أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، وفي نفس الوقت لم يتأثر موقف روسيا كثيراً في المجتمع الدولي بعد الحرب، فلم يفرض الغرب عقوبات على موسكو، ولذلك ينظر إلي غزو روسيا لجورجيا علي أنه كان بداية للأطماع الروسية، كما يعكس مدي انعدام المسئولية الغربية تجاه الدول الحليفة، فقد برهنت التجربة علي أن أمن وسلامة أراضي جورجيا لم يكن يشكل أولوية قصوى على قائمة طويلة من المصالح الإستراتيجية الغربية في ذلك الوقت، فلم يكن الناتو علي استعداد للدخول في حرب ضد روسيا دفاعاً عن دولة ليست عضواً فيه مثل أوكرانيا حالياً، لذلك كان على جورجيا أن تدافع عن نفسها، ولكنها لم تتلقي أي دعم لوجستي أو مالي، أو حتي فرض عقوبات علي روسيا جراء عملية الغزو.
عمل الغرب بعد حرب جورجيا علي رسم سياسة جديدة لإعادة ضبط العلاقات مع روسيا، ولكن هذه السياسة لم تحقق النجاح المأمول منها، فقد وصلت القوات الروسية خلال عقد من الزمن إلى أوكرانيا وسوريا وأوروبا والولايات المتحدة، وعلى عكس القرم ودونباس، اتضح أن جورجيا كانت أفضل حالاً من أوكرانيا، حيث تم ابرام اتفاق وقف إطلاق النار في وقت مناسب ومن ثم الحفاظ على الدولة والعاصمة في أمان، فقد كان غزو روسيا لجورجيا محدوداً مقارنة ببقية الحروب الحديثة التي تخوضها روسيا، إلا أن ذلك لا يقلل من أهمية المأساة.
لقد شعرت جورجيا بخذلان الولايات المتحدة والدول الغربية بشكل عام لها، عندما قامت روسيا بغزو أراضيها، وأدى الرد الدولي المتواضع على الغزو والإحتلال إلى تشجيع نزعة المغامرة الروسية في الخارج، فجورجيا لم تكن ذات أولوية في ذلك الوقت بالنسبة للغرب، ولذلك فقد تغلبت سياسة القوى العظمى على إلتزام الغرب بالنظام العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية، واختاروا سلاماً قصير الأجل، واختار الناتو البقاء بعيداً عن المواجهة مع روسيا، وهو ما تكرر أيضاً عام 2014 عندما قررت موسكو ضم شبه جزيرة القرم، ولم يتخذ الغرب أي إجراءات توقف عملية الضم، وإن كانت تركيا العضو في حلف الناتو قد عارضت بقوة ذلك الضم، علي أساس أن أغلب سكان القرم من أصول تركية، ولكن المعارضة التركية لم تجد مساندة لها من قبل الدول الغربية، فكان ذلك بمثابة تشجيع لروسيا علي غزو أوكرانيا، حيث كانت روسيا تدرك مسبقاً حدود الغضب الغربي.
تمثل عملية الغزو الروسي لأوكرانيا سيناريو مشابه لما حدث في جورجيا عام 2008، خاصة بالنسبة للأهداف والدوافع الروسية، ولكن الإختلاف هو الدعم الغربي القوي لأوكرانيا في تلك الحرب عن الدعم أو المساندة الغربية لجورجيا عام 2008، فقد يكون الدعم الغربي لأوكرانيا لإضعاف القوة الروسية، أو لإستنزاف القوة الإقتصادية والعسكرية لروسيا، أكثر مما هو دعم لأوكرانيا للحفاظ علي وحدة وسيادة أراضيها.
أحمد عبده طرابيك
باحث في شئون آسيا الوسطي والقوقاز