على ضفاف نيل القاهرة جمعنى حديث مع الدكتور محمد العريان، الاقتصادى المصرى العالمى، وكان فى واحدة من زياراته الخاطفة للبلاد فى عام 2008 بعد صدور كتابه المعنون "عندما تتصادم الأسواق»، وكنا عند هذا اللقاء فى أجواء أشهر الصيف الساخن الذى سبق إفلاس بنك "ليمان براذرز" ثم انهيار الأسواق المالية فى خريف تلك السنة، بسؤال عن ترجيحه لأى من المسارين ستتخذه الأسواق هل هبوط ناعم أم هبوط عنيف؟ وما هى البدائل المتاحة والأولويات التى يجب أن تشغل صناع السياسة الاقتصادية كأولوية؟
فأخذ ورقة وقلما ورسم جدولا من عمودين وصفين، ووضع فى العمود الأول كلمة عاجل باللغة الإنجليزية، وفى الآخر وضع "غير عاجل"؛ وفى الصف الأول وضع «ضرورى» وفى الصف الآخر وضع "غير ضرورى". وتحول الحديث بيننا إلى مباراة لتصنيف ما يجب وضعه فى الخانات الأربع فى هذا الجدول المبسط لاتخاذ القرار: الخانة الأولى للقرارات الضرورية العاجلة، والخانة الثانية للقرارات الضرورية غير العاجلة، والثالثة للقرارات العاجلة غير الضرورية، والرابعة والأخيرة للقرارات غير العاجلة وغير الضرورية. وللتوضيح سأسوق أمثلة للحالات الأربع:
ــ هب أن شخصا أصيب فى حادث سير وهو فى طريقه للحاق بقطار، فالقرار بديهيا سيكون عاجلا وضروريا لإنقاذ حياته بطلب المسعفين له.
ــ بعد إسعاف هذا الشخص بعلاجه ثم الاطمئنان عليه سيكون من الضرورى البحث عن ذويه، ولكن لا يحمل هذا الأمر رغم أهميته ذات درجة الاستعجال كإنقاذ حياته.
ــ أما الأمر العاجل غير الضرورى فى حالة هذا الشخص، فهو ما كان مُقدِما عليه باللحاق بالقطار فمنعته ضرورة علاج إصابته عنه.
ــ وتبقى الحالة الرابعة، التى ليست عاجلة فعلا ولا ضرورة لها أصلا، بأن يترك الشخص مدرجا فى دمائه ولا يطلب له من تصادف وجودهم حوله مسعفا، بل يقومون بتصويره ونشر صور المأسوف عليه على مواقع التواصل الإلكترونية.
وفى هذا العالم شديد التغير تتزاحم المستجدات الداعية إلى اتخاذ القرار فى خانة الأمور الضرورية العاجلة فيتصدى لها الحصفاء من متخذى القرار بما يلزمها، ولكن هناك من يصنفها جهلا أو تجاهلا فى خانة أدنى تنزع عنها صفة الاستعجال والضرورة، وقد يقدم عليها ما يهدر الإمكانية ويضيع وقتا ثمينا لتخفيف التكلفة أو اغتنام فرص كانت سانحة.
وقد اجتمعت فى أيامنا هذه أزمات عدة بدأت بتداعيات أزمة "كورونا"، التى لم يبرأ العالم منها بعد، وبما لحق البشرية من أذاها فى حياتهم ومعيشتهم وما سيستلزم منهم زمنا طويلا لسداد مديونياتها التى تراكمت أعلى جبال من ديون عامة وخاصة، كونتها سنوات من الإسراف فى الاقتراض المدفوع بموجة من انخفاض لأسعار الفائدة. ثم أتت الحرب البائسة فى أوكرانيا فى أعقاب خلل واضطرابات فى النظام العالمى وتصاعد حدة المشكلات الجيوسياسية بين قوى تقليدية وأخرى صاعدة. وجاءت الأزمة الأخيرة بعد شكوى من ارتفاع الأسعار تضخما لعدم ملاحقة سلاسل الإمداد لعرض السلع والمنتجات لزيادة معدلات الطلب. وبعد كثرة توقع عن التعافى وسرعته وأشكال لمنحنياته يواجه العالم فعلا معدلات تضخم لم يشهدها منذ أربعة عقود، وتراجعا متزامنا فى معدلات النمو والتشغيل، واضطرابا عنيفا فى البورصات، محت فى أسابيع مكاسب أعوام كان بعضها مستحقا وبعضها الآخر مفتعلا أو منتفعا بضخ للسيولة وتهافت المضاربين. ومع ذلك، فلا ينبغى بحال أن يُلقى اللوم كله على مشاجب أزمات عالمية وصدمات خارجية، فالتحقق المبين والتشخيص المنضبط مطلوبان لحسن العلاج واستكمال التعافى، فالدول حيال هذه الأزمات وتعاملها معها فى تباين له ما بعده من تكريس للتفاوت بينها.
ورجوعا إلى الجدول المشار إليه لا يُخشى فى عملية اتخاذ القرار من سوء تصنيف الأمور العاجلة والضرورية فهى تفرض نفسها فرضا، إلا إذا حجب الرؤية عنها تدليس فى البيانات أو تهوين للخطورة. ولكن المشكلة قد تتجلى بمزاحمة الأمور الضرورية بما يرجئ التعامل معها والاهتمام بديلا عنها بما يظهر على أنه عاجل وإن كان غير ضرورى، أو يختلط الأمر بتقديم ما هو أدنى فى مراتب الأولويات من حيث الضرورة والاستعجال معا. ولهذا أسباب، منها تصدع هرم المعرفة لغياب البيانات أو لقصور المعلومات أو افتقاد الخبرة اللازمة، ومن الأسباب أيضا غلبة مواقف آيديولوجية مسبقة تحيد بالقرار عن النهج العلمى والعملى فى التعامل المبكر والحصيف مع الأزمات قبل استفحالها، أو تكون عملية اتخاذ القرار عرضة لتأثير جماعات مصالح تحيد بها عن تحقيق الصالح العام.
وأسوق ما سبق لخطورة عواقب إهمال قضية تغيرات المناخ، فلم يقلل من شرها خطورة ما يواجهه العالم من أزمات متعاقبة من وباء وحرب وغلاء وركود وديون. فالتصدى لأزمة المناخ ضرورة عاجلة ما زالت ميسورة الحلول بما يتوفر فى عالمنا من مال وعلم وقدرات تكنولوجية. فكما أفصح العلم عن خطورة تأثيرات الانبعاثات الضارة على مناخ الأرض وما يترتب على ارتفاع درجة حرارة الأرض 1.5 درجة مئوية فوق مستوياتها قبل الثورة الصناعية، فقد طور العلم أيضا وتطبيقاته الحلول العملية لتخفيف الانبعاثات الضارة والتكيف مع آثارها. ولكن هذه الحلول تستوجب تمويلا ضخما وسياسات متكاملة ومؤسسات فاعلة تعمل على تنفيذها بكفاءة.
ولما كانت القمة السابعة والعشرون للمناخ، التى ستعقد فى شهر نوفمبر المقبل فى إطار الأمم المتحدة، ستستضيفها مصر كدولة ذات شأن بحضارتها ذات التاريخ العتيد وثقافتها العربية وجذورها الأفريقية ولدورها فى محيط البلدان النامية وتفاعلها الدولى الممتد عبر البحر المتوسط ولامتداد أواصر تعاونها بين مشارق الأرض ومغاربها، أرى هذه القمة بانية على خبرات ما سبقها من قمم احتشدت لها قيادات الدول ومفاوضوها والأطراف غير الحكومية من ممثلى القطاع الخاص والمجتمع المدنى والفاعلين من الأجيال الشابة والمؤسسات والمنظمات الدولية.
وأقدم هنا بإيجاز ما سأقوم بتفصيله فى مقالات قادمة لما اعتبره أولويات لقمة المناخ المقبلة:
أولاً: تبنى منهج شامل لبرامج العمل المناخى من خلال تدعيم التعامل مع تحديات تغيرات المناخ من خلال الإطار المتكامل للتنمية المستدامة، وفى مقدمة أهدافها مكافحة الفقر. ويستلزم هذا المنهج الشامل تحقيق التوازن بين جهود تخفيف الانبعاثات الضارة بالمناخ والتكيف مع آثارها وتوفير وسائل تحقيقها، والتوسع فيها، والعمل على أن يكون ذلك فى إطار عادل وفعال لعملية إدارة التحول.
ثانياً: بناء على الأهداف والطموحات المتفق عليها فى اتفاق باريس واستنادا إلى نتائج قمم المناخ السابقة ستكون الأولوية الكبرى لقمة شرم الشيخ هى التركيز على التنفيذ للتعهدات التى عقدتها الحكومات على نفسها والالتزامات التى قطعتها المؤسسات المالية وشركات القطاع الخاص والمنظمات الدولية. فلقد تبارت جهات وأطراف شتى فى تقديم وعود مساندة لأولويات العمل المناخى لم يرق تنفيذها لما هو مأمول أو متوقع. وقد حان وقت الوفاء بالتعهدات، خاصة مع ما تظهره التقارير العلمية المعتمدة من تدهور فى أوضاع المناخ وأنه يزداد سوءا بمعدلات متسارعة عما كان مقدرا.
ثالثاً: تحتاج جهود العمل المناخى ومشاريعه إلى تمويل ضخم لن تكفيه تعهدات كوبنهاجن ذات المائة مليار سنويا منذ عام 2009، وهى لم يتم الوفاء بها فى أى سنة على أى حال، ولا تكفى هذه المبالغ ولا مضاعفاتها لسد فجوات تمويل العمل المناخى، ولا حتى فى بند واحد من بنودها وهو توفير الطاقة النظيفة. بما يستوجب مشاركة القطاع الخاص بالتمويل الاستثمارى بالأساس؛ فقد وصلت المديونيات لحدود عليا تستوجب الاعتماد على منح الحكومات والابتكار والتطوير فى برامج التمويل الذى يعتمد على المشاركة الاستثمارية دون زيادات أكبر فى أعباء الديون. كما تلح الحاجة إلى اتفاق لقواعد ومبادئ وأولويات تمويل العمل المناخى لما بعد عام 2025.
رابعاً: الدفع بالعمل الإقليمى والتعاون فى إنجاز مشاريعى ذات بعد جغرافى ونطاق يتجاوز حدود دولة بعينها، وهو ما تتطلبه جدوى مشروعات عدة للتخفيف والتكيف لا تكفى إمكانات دولة واحدة، خاصة إذا كانت ذات اقتصاد صغير الحجم لإنجازها. ويتيح التعاون مع الأقاليم الاقتصادية الخمسة للأمم المتحدة فرصا لإنجاز مشاركات كبرى ومجالات للتعاون بين الأصول المالية المتعهد بها لمشروعات وهى أكثر من 130 مليارا وتحويلها لتدفقات مالية استثمارية.
خامساً: توطين مشروعات العمل المناخى والعمل على توافق تنفيذها مع برامج التنمية المستدامة دون تنافر معها على مستوى القرى والمدن والأقاليم النائية والجزر الصغيرة، بما يحقق أهداف النهج الشامل فى التنفيذ عدلا وكفاءة.
د. محمود محيي الدين
عن صحيفة الشروق