الأموال الساخنة وحدود الاعتماد عليها

مقالات 15:00 05.07.2022
      عندما تدفقت أموال الأجانب وغير المقيمين على شراء السندات السيادية المصرية المطروحة فى مختلف العطاءات سواء بالعملة الوطنية أو بالعملات الصعبة (السندات الدولارية)، كانت وزيرة الاستثمار آنذاك تزف خبر زيادة تلك التدفقات باعتبارها بشارة ارتفاع حصيلة الاستثمار الأجنبى فى مصر. كان مناط اعتراضى حينها على تلك البشارة أنها تحمل فى طياتها العديد من المغالطات؛ فعلى الرغم من كون مشتريات الأجانب للسندات الحكومية تعد نوعا من استثمارات الحافظة (أو الاستثمار غير المباشر) فإنها تختلف بشكل جوهرى عن ذات المشتريات لو أنها اتجهت إلى الأصول الأخرى مثل الأسهم المتداولة فى البورصة المصرية.
       غنى عن البيان أن شراء المستثمر لأسهم شركة ما يعنى أنه قد صار شريكا بها وأحد ملاكها، وأنه يحصد معها الأرباح كما يتحمل الخسائر مع سائر ملاك الأسهم. أما شراء أدوات الدين مثل السندات والصكوك وأذون الخزانة (فى سوق النقد) فهى لا تتجاوز فكرة القروض التى يقرضها المستثمر للحكومة (فى حالة السندات الحكومية) أو للشركات (فى حالة سندات الشركات). وصكوك الدين تلك تجعل حامل السند دائنا للحكومة أو للشركات حسب الأحوال، وهو من هذا المنطلق يحصل على عائد ثابت (كوبونات) من الحكومة أو الشركة لا يتغير فى حالة الخسائر أو الأزمات، من هنا جاءت التسمية الأخرى لأدوات الدين وهى «أدوات الدخل الثابت». ناهيك عن واقع الرسائل الإيجابية التى يحملها إقبال المستثمرين الأجانب على أسهم الشركات المصرية لجاذبيتها وارتفاع العائد عليها مقابل مخاطر الاحتفاظ بها، والتى لا يمكن مقارنتها بالرسائل السلبية لإقبال المتعاملين الأجانب على شراء أدوات الدين السيادية المحلية، التى تدفع عائدا على الدين يعد الأكبر فى العالم (خاصة إذا تم احتساب العائد الحقيقى بعد خصم معدل التضخم)، الأمر الذى يضع عبئا متزايدا على كاهل الحكومة، ويؤكد أن الدولة قد استنفدت أدواتها الاستثمارية المولدة للدخل المستدام، ولم يعد فى جعبتها سوى مزيد من أوراق الدين مرتفع التكلفة.
      لم يقل اندهاشى من تصريحات وزيرة الاستثمار السابقة عن دهشتى من تصريح نسب إلى وزير المالية الحالى بخصوص الأموال الساخنة، وكيف أنه «تبين» أنها غير ذات جدوى، وأنها تدخل الدولة بغرض اغتنام خيراتها وتخرج عند أول اختبار صعب لجديتها! لم يكن هذا الأمر اكتشافا جديدا، بل هو يقين يعرفه الكتاب المدرسى ويقر به الكافة وفى مقدمتهم أصحاب الأموال الساخنة ذاتهم، الذين لم يدعوا فى أى وقت أنهم أصحاب رسالة تنموية أو يحملون طى جوانحهم ولاء للدولة التى تستدين منهم! هم يبحثون عن كل قرش إضافى يمكن تحقيقه بين بدائل كثيرة فى مختلف دول العالم. بل أذكر أنى قد حذرت غير مرة من بعض تقارير بيوت الاستثمار وأذرع البنوك الاستثمارية الأجنبية، التى كانت فى حالة حض دائم للبنك المركزى المصرى على زيادة أسعار الفائدة حتى فى غير أوقات الأزمات أو ضرورة التشديد النقدى، لافتا إلى أن ذلك الحض يخفى مزايا عديدة لأصحاب الأموال الساخنة، الذين تلعب تلك الأذرع دورا حيويا فى توجيههم وتعبئة مدخراتهم فى أدوات الدين المختلفة نظير الأتعاب والعمولات.
       كذلك فإن استعار بيع الأجانب للسندات الحكومية المصرية فى السوق الثانوية بأسعار منخفضة جدا (بلغت تقديرات الانخفاض ما يقرب من 55% فى بعض الإصدارات ذات الأجل الطويل) كان نتيجة طبيعية للظهور القوى للمنافس الدولارى، مع ارتفاع أسعار الفائدة على الدولار بشكل منتظم من قبل الفيدرالى الأمريكى، واتجاه معظم الدول إلى إجراءات مشابهة خفضت من تنافسية السندات المصرية بشكل كبير، سيما مع تراجع قيمة الجنيه المصرى، علما بأن إقبال المستثمرين على شراء أدوات الدين المختلفة عادة ما يكون طلبا مشتقا من الإقبال على قيمة العملة الوطنية. كذلك يدرك المستثمر الأجنبى أن تباين قيمة العملة المحلية الرسمية عن قيمتها فى السوق السوداء، يعنى أنه قد يتكبد تكلفة إضافية من تحويل عائداته إلى الدولار تمهيدا لتحويلها إلى حسابه فى الخارج. تلك التكلفة هى الفرق بين سعر الصرف الرسمى وسعر الصرف الحقيقى، وهى تأكل من إيراداته المستقبلية المتوقعة، فيلجأ إلى التخلى السريع عن السندات بأبخس الأثمان، مما يجعل العائد على السند أكبر نسبيا.
      للتبسيط على القارئ غير المتخصص وجبت الإشارة إلى أن هناك علاقة عكسية بين سعر السند (price) والعائد عليه (yield)، ومن ثم فإن التراجع المستمر فى أسعار السندات الحكومية المصرية فى السوق يعنى ارتفاع العائد الذى تلتزم الحكومة بسداده لمشترى تلك السندات، وهو يعنى أن أى إصدار جديد للسندات الحكومية (عملية الإصدار لا تتوقف أبدا نتيجة لزيادة الالتزامات وارتفاع عجز الموازنة العامة) سيكون بعائد أعلى نسبيا من ذى قبل.
       كذلك ترتبط تكلفة الاستدانة بالتصنيف الائتمانى للمنتج المالى. فإذا كان التصنيف الائتمانى لمخاطر الاستثمار فى أداة دين تصنيفا مرتفعا، فهذا يعنى أن قدرة المدين على السداد تكون أفضل ومخاطر تعثره عن السداد تكون أقل. ومع شبه ثبات تصنيف مصر الائتمانى لدى معظم مؤسسات التصنيف الدولية الهامة عند مستوى «بى المنفردة» Single B تكون درجة المخاطر مرتفعة إلى حد كبير، الأمر الذى يستلزم تعويض تلك المخاطر بعائد أكبر من عائد أدوات الدين المثيلة التى تصدرها حكومة المملكة المتحدة مثلا والتى تنعم بتصنيف «إيه مزدوج» Double A عند مؤسسات التصنيف ذاتها.
       من هنا كان تحول النظرة المستقبلية لمصر عند مؤسسة «موديز» أخيرا إلى نظرة سلبية لأول مرة منذ أعوام، مؤشرا على زيادة المخاطر المستقبلية للاستثمار فى أدوات الدين المصرية. كذلك جاء تحول صافى الأصول الأجنبية بالجهاز المصرفى إلى السالب لأول مرة منذ سنوات، بمثابة جرس إنذار إضافى لتراجع الأصول الأجنبية فى الجهاز المصرفى المصرى. وقد شهد صافى الأصول الأجنبية لدى الجهاز المصرفى المصرى، بما فيه البنك المركزى، تراجعا بمقدار 370 مليار جنيه (نحو 20 مليار دولار أميركى)، فى فترة لم تتجاوز 12 شهرا، بعدما تراجع الرصيد من 320 مليار جنيه (17 مليار دولار) فى فبراير 2021 إلى نحو «سالب» 50 مليار جنيه (2.7 مليار دولار) فى الشهر ذاته من العام الحالى.
       وصافى الأصول الأجنبية معادلة مصرفية يجرى خلالها خصم التزامات القطاع المصرفى (بما فيها البنك المركزى) تجاه غير المقيمين من إجمالى الأصول بالعملة الأجنبية، وهو ما يعكس زيادة الالتزامات على البنوك لدرجة يتحول معها الصافى إلى سالب. ومن الأمانة أن نشير إلى أن العلامة السالبة لصافى الأصول الأجنبية ليست بالضرورة إشارة سلبية، إذ أنها تقرأ فى سياق عدد آخر من المؤشرات ومنها سداد أقساط الديون المستحقة مثلا، وتغيرات ميزان التجارة... وهى أمور فنية نعفى القارئ العزيز من مشقة الإلمام بها، فقط نوضح أن السياق الحالى لتلك العلامة السالبة لصافى الأصول الأجنبية يعكس خروج الأموال الساخنة بشكل كبير مع زيادة الالتزامات تجاه العالم الخارجى، وعدم تعويض تلك التدفقات النافرة باستثمارات أجنبية فى البورصة المصرية مثلا، وهى التى تعانى منذ سنوات من أمراض التكلس وفقد الثقة وتراجع العائد على المؤشرات، بل وتراجع كل مؤشرات الأداء السوقى لأسباب لا مجال للخوض فيها فى هذه المساحة، وقد سبق تناولها تفصيلا فى أكثر من مقال ومقام.
      مما سبق فإنه يتعين على المجموعة الاقتصادية بالحكومة المصرية أن تمنح الاقتصاد الحقيقى ومن ورائه الاستثمار المباشر العناية القصوى لزيادة الإنتاج والنمو والتشغيل، وجذب الاستثمارات الأجنبية التى لا تأتى إلا على استثمارات محلية قائمة، ولا تجد سبيلا للدخول ولا منفذا آمنا للتخارج إلا من خلال بورصة الأوراق المالية. من هنا كانت أهمية النظر فى تطوير منظومة سوق المال بأكملها، بدءا بحوكمة المنظومة الرقابية للحد من التدخلات المنفرة للمستثمرين المحليين والأجانب على السواء، مرورا باستحداث المنتجات المالية وأدوات التعامل بما يناسب ذائقة المستثمر الأجنبى والمؤسسات الكبرى، وانتهاء بوضع خارطة طريق واضحة لتحول مصر إلى مركز مالى إقليمى أو بالأحرى إعادة مصر على مسارها الذى كانت تتخذه قبل العام 2011 لتحقيق تلك الرؤية. فى الختام بقى أن نذكر أن مجلس إدارة الهيئة العامة للرقابة المالية قد انتهى منذ مارس الماضى ولم يتم تشكيل مجلس جديد منذ ذلك التاريخ!
 
 
مدحت نافع 
خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل  
 
عن صحيفة الشروق  
 
 
 
 
الشيخ علي جمعة يحذر العالم من خطر يأجوج ومأجوج القادم من أرمينيا

أحدث الأخبار

بلينكن سيزور السعودية ومصر لبحث وقف إطلاق النار في غزة
13:15 19.03.2024
اشتباكات في ليبيا تغلق المعبر الحدودي مع تونس
13:00 19.03.2024
رئيسة مولدوفا تجري استفتاء على انضمام بلادها إلى الاتحاد الأوروبي
12:45 19.03.2024
رئيس الموساد في قطر لإجراء محادثات حول وقف إطلاق النار والرهائن
12:30 19.03.2024
كيم جونج أون يتعهد بتعزيز العلاقات بين روسيا وكوريا الشمالية
12:15 19.03.2024
ماكرون يدفع باتجاه انخراط غربي أكثر في حرب أوكرانيا
12:00 19.03.2024
بوريل حرب غزة صارت مقبرة للكثير من أهم مبادئ القانون الإنساني
11:45 19.03.2024
إيران جذبت 5.5 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية
11:30 19.03.2024
بوتين يخاطب الروس في الساحة الحمراء بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية
11:15 19.03.2024
بهشلي يتمسك بأردوغان منقذاً لتركيا في قرنها الجديد
11:00 19.03.2024
إيران إجراء الجولة الثانية من انتخابات البرلمان في 10 مايو
10:45 19.03.2024
المحكمة الدستورية في كرواتيا تمنع الرئيس ميلانوفيتش من الترشح لرئاسة الوزراء
10:30 19.03.2024
العراق يتجه إلى استخدام الطاقة النووية
10:15 19.03.2024
إسرائيل تمنع مدير أونروا من دخول غزة
10:00 19.03.2024
الصين تتهم الولايات المتحدة بتهديد الأمن العالمي
09:45 19.03.2024
إسرائيل تطلب من محكمة العدل الدولية عدم إصدار أوامر جديدة بشأن غزة
09:30 19.03.2024
إجراءات تركية ضد ميتا بسبب البيانات
09:15 19.03.2024
70% من سكان غزة قد يواجهون جوعاً كارثياً
09:00 19.03.2024
رحلة الجنيه المصري من الذهب إلى التعويم
18:00 18.03.2024
الحائز على جائزة نوبل للسلام محمد يونس يزور مؤسسة أوراسيا الدولية للصحافة
17:35 18.03.2024
الجزائر تؤكد أهمية التعاون الإقليمى والدولى لمكافحة المخدرات
17:00 18.03.2024
شكري يؤكد رفض مصر لأي تدخلات خارجية فى الأزمة السودانية
16:00 18.03.2024
بيراموف يجتمع مع الأمين العام لحلف الناتو
بيراموف يجتمع مع الأمين العام لحلف الناتو
15:34 18.03.2024
وزيرة التجارة وتنمية الصادرات التونسية تستقبل السفير الأمريكي بتونس
15:30 18.03.2024
الدبيبة يرفض قرار عقيلة صالح فرض ضريبة على الدولار
15:00 18.03.2024
علييف يهنئ بوتين بفوزه في الإنتخابات الرئاسية
14:45 18.03.2024
من قراباغ... علييف يهنئ الشعب الأذربيجاني بعيد النوروز
14:42 18.03.2024
التيار الوطني الحر خسر الشراكة مع حزب الله
14:30 18.03.2024
المعارضة الروسية تنغص فوز بوتين بتحركات احتجاجية رمزية
14:16 18.03.2024
بأقل من أسبوع.. مقتل شاب يمني ثان في أميركا بسطو مسلح
14:00 18.03.2024
مقتل 11 وإصابة 82 في قصف أوكراني لمقاطعة بيلغورود
13:45 18.03.2024
اعتقال 9 أشخاص بعد مهاجمتهم مركزاً للشرطة في باريس
13:30 18.03.2024
هيومان رايتس ووتش تطالب بفرض عقوبات على إسرائيل
13:16 18.03.2024
مزارعون بولنديون يغلقون طريق سريع رئيسي بالقرب من الحدود الألمانية
13:00 18.03.2024
طهران مستعدة لاستخدام كافة قدراتها لتعزیز القوة الردعية لسوریا
12:45 18.03.2024
توقيع عقود نفطية بقيمة تزيد عن 13 مليار دولار لتعزيز إنتاج النفط بإيران
12:30 18.03.2024
ترتيب أمريكي للاستحواذ على تيك توك
12:15 18.03.2024
تحولات تاريخية لضبط مواقيت الصلاة في قبلة المسلمين
12:00 18.03.2024
بوتين يفوز بالرئاسة الروسية بنسبة 87 % من الأصوات
11:45 18.03.2024
إيجاس المصرية تخطط لبدء الإنتاج من 20 بئراً للغاز في السنة المالية المقبلة
11:30 18.03.2024
جميع الأخبار