تصعيد الاستفزاز الأمريكي يهدد النظام الدولي بالانفراط

مقالات 17:17 18.08.2022
       نعرف بقدر لا بأس به من التبسيط أننا، منذ نهاية الحرب الباردة فى أوائل العقد الأخير من القرن الماضى، نعيش فى نظام دولى أحادى القطبية. هذا النظام دشنته الولايات المتحدة رسميا وفعليا فى مطلع القرن الحالى فى أعقاب عملية تفجير برجى نيويورك بأيدى جماعة دينية متطرفة. لا نبتعد عن حقائق الأمور كثيرا إذا انتهينا كما انتهى آخرون إلى الاعتراف بأن العمل الذى خططت له ونفذته هذه الجماعة المتطرفة كان بمثابة «المفجر» لتطور هام للغاية فى العلاقات الدولية ألا وهو انطلاق عملية الانتقال، ولا أقول التحول، من نظام دولى ثنائى القطبية إلى نظام دولى أحادى القطبية. أصر على أنه كان انتقالا وليس تحولا لأسباب تبدو الآن واضحة، يأتى فى مقدمتها حقيقة ناصعة، وهى أن النظام ثنائى القطبية أفرزته تطورات الحرب العالمية الثانية والأوضاع الجيوسياسية على الأرض وكانت الولايات المتحدة، رغم أو بفضل انشغالها بالحرب، هى التى خططت لتنفيذه ورسم خطوطه الرئيسية ومنحه الشرعية اللازمة وصنع مؤسساته ومنها الأمم المتحدة والصروح الاقتصادية الكبرى التى شكلت فى مجموعها أسس النظام الاقتصادى العالمى الجديد. ثم أنها كانت الفاعل الرئيسى فى وضع وتمويل نظامه الأمنى ممثلا فى حلف الناتو ووظيفته غير المعلنة حماية النظام الدولى الخاضع دائما للهيمنة الأمريكية.
       هكذا استحقت المرحلة بأسرها تسميتها بمرحلة السلم الأمريكى، وفى تسمية أخرى أكثر واقعية عرفت بمرحلة الهيمنة الأمريكية. لذلك نقول إن إعلان الرئيس بوش عن بزوغ نظام عالمى جديد لم يَشِ بتحول من نظام إلى آخر مختلف تماما وإنما على العكس أكد على أنه مجرد انتقال من نظام ثنائى القطبية تهيمن فيه أمريكا إلى نظام أحادى القطبية يعزز هذه الهيمنة ويحميها وهى بدورها تعزز أحادية القطب الأمريكى وتحميها ضد طموحات أى قوة صاعدة ومخططات أى قوة مخربة.
       أقول بتروٍ وتفكير عميقين حسنا فعلت أمريكا. حسنا فعلت عندما شكلت لجانا وورش عمل وكلفت أساتذة وخبراء فى جميع مجالات القانون الدولى والمفاوضات والعلاقات الدولية لوضع رؤية لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. لم تنته الحرب إلا وكانت جوانب عديدة من هذه الرؤية قد اتضحت أمام السياسيين والحكام فى العالم بأسره. وأقبل العالم على مرحلة جديدة تعتمد نظاما دوليا ثنائى القطبية ــ قطب ديموقراطى رأسمالى غربى وقطب شيوعى شرقى ــ تعتمد أيضا تقسيما لنفوذ وسيطرة القطبين فى القارة الأوروبية لوأد أى نشاط أو نوايا ضد النظام الدولى الجديد، ولإخضاع القارة التى كثيرا ما هددت السلم والاستقرار. اعتمدت أيضا سياسة تفضى إلى تصفية الاستعمار التقليدى فى جميع أقاليم العالم النامى والتدخل فى حالات بعينها للحلول محل قوات الاستعمار الأوروبى الضعيفة فى مواجهة الزحف الشيوعى المدعوم بالقطب السوفييتى.
       لا يمكن إنكار الفائدة التى عادت على أطراف كثيرة فى هذا العالم بسبب وخلال مرحلة نطلق عليها مجازا تعبير السلم الأمريكى. أوروبا التى خرجت من الحرب العالمية الثانية محطمة استفادت من مشروع مارشال لإعادة تعميرها. استفادت أيضا شعوب كثيرة فى العالم النامى من الدور الذى لعبته الولايات المتحدة فى تصفية مواقع عديدة للاستعمار الغربى وبخاصة الفرنسى والبريطانى. استفادت الصين من حاجة الولايات المتحدة الماسة إلى تصدير بعض استثماراتها للعمل فى الخارج، وتشغيل عمالة رخيصة للكثير من مشاريعها الصناعية، وكسب شركاء فاعلين فى توسيع مجالات العولمة ونشرها. استفادت حركات نشر الديموقراطية ومقاومة الاستبداد من الهالة الأيديولوجية التى كانت أهم قوة رخوة استعانت بها أمريكا لتعميق هيمنتها وتبرير تدخلاتها بذريعة حماية الاستقرار والأمن الدوليين.
      كانت الديموقراطية أهم قوة رخوة فى ترسانة مختلف مصادر القوة الأمريكية التى استخدمتها لتحقيق أهدافها كدولة مهيمنة، ولا أقول إنها لا تزال. فما حدث من تطورات خلال عملية الانتقال من نظام دولى ثنائى القطبية إلى نظام دولى آخر، وربما إلى استعادة القوة والاستقرار إلى النظام الأحادى القطبية، يثبت أن أمريكا فقدت الكثير من مكانتها وشعبيتها لدى أمم كثيرة بعد أن كانت بلا منازع الدولة الأكثر شعبية فى العالم. نجح الحلم الأمريكى فى أن يصبح حلم شعوب كثيرة وليس فقط حلم المواطن الأمريكى أو الفرد المهاجر إلى أمريكا. كانت أمريكا صاعدة ومتفوقة فى كل معايير السباق على الشعبية. تفوقت على فرنسا وعلى بريطانيا العظمى وعلى روسيا الشيوعية. استمرت وحدها قائدة للغرب بفضل حيازتها والزعم المتواصل بحمايتها للديموقراطية ومبادئ وقيم حقوق الإنسان، وضمان الاستقرار الاجتماعى والانتقال السلمى للسلطة السياسية، والصدارة فى جودة التعليم والثقافة.
      بهذه الإنجازات وغيرها استطاعت الولايات المتحدة أن تقود فى النظام الدولى الثنائى القطبية، وأن تفلح فى إزاحة روسيا عن موقع القطب الثانى لتنفرد بالهيمنة على أمل أن تنجح فى تثبيتها بإجراءات وسياسات تعزز شرعية نظام القطب الواحد. لم يتحقق هذا الأمل ولأسباب لم تعد محل اختلاف أو نقاش. أول هذه الأسباب، الإدراك المتزايد داخل العالم النامى بخلل فى أداء مؤسسات الأمم المتحدة وبخاصة مجلس الأمن وانحيازات صارخة لمؤسسات العمل الاقتصادى، يصاحبه إدراك أقوى بتدهور مستويات الأداء الدبلوماسى والسياسى للولايات المتحدة فى المحافل الدولية وبخاصة فى مؤتمرات القمة. ظهر التدهور واضحا فى عهد الرئيس دونالد ترامب حين تخلى أكثر من مرة عن الحرص على احترام مظاهر الديموقراطية وانتهى العهد بإساءة بالغة لمكانة أمريكا حين احتلت جماهير ترامبوية الكونجرس وعاثت فيه تخريبا وازدراء.
      لم يتحسن كثيرا التدهور فى عهد الرئيس بايدن حين ازداد عدد السياسات التى عكست تناقضات قوية. آخر هذه التناقضات وأخطرها التضحية بحياة أمة أو شعب فى دول صغيرة للزج بروسيا فى صراعات خارجية لإضعافها، وهو الحادث الآن فى الأزمة الأوكرانية المفتعلة. يحدث الشىء نفسه مع الصين الساعية لاحتلال موقع تستحقه بجدارة باعتبار المعايير المطلوبة لمن يشغل موقع قطب عظيم فى النظام الدولى، وهو الحادث الآن فى الأزمة تحت التسخين فى تايوان.
      أجد صعوبة كبيرة فى تصور أن يوما يأتى وأكون بين من يمتدحون ما تفعله أمريكا تمهيدا لتنفيذ خطة وقف صعود كل من الصين والاتحاد الروسى نحو احتلال موقعى القطبين الثانى والثالث على التوالى فى نظام جديد. أتابع بقلق وتوتر بالغين ما تفعله أمريكا فى هذه المرحلة الحرجة. لا أقول، وأظن أننى لن أقول فى يوم من الأيام القادمة «حسنا فعلت أمريكا». هل إلى هذه الدرجة تغيرنا؟ ولكن من الذى تغير؟ تغيرت أمريكا أم أنا الذى تغير؟ المناقشة مستمرة ويجب أن تستمر.
 
 
جميل مطر   
كاتب ومحلل سياسي
 
عن صحيفة الشروق  
 
ما مدي عدالة محكمة العدل الدولية ؟ - أومود ميرزايف يجيب

أحدث الأخبار

أسرار استهداف إيران لأذربيجان
17:16 19.04.2024
في يومها الأخير جلسات الاستماع في الدعوي الارمينية ضد أذربيجان
16:00 19.04.2024
كواليس انسحاب قوات حفظ السلام الروسية من قراباغ
15:00 19.04.2024
زرادشت علي زاده : الولايات المتحدة لا تريد أن يتم فتح طريق زانجيزور في ظل هذه الظروف
14:00 19.04.2024
ما تأثير انسحاب قوات حفظ السلام من قراباغ؟
13:00 19.04.2024
اشتباكات بين الدفاع الجوي الإيراني وطائرات إسرائيلية بطهران
12:00 19.04.2024
جوتيريش العمليات العسكرية الإسرائيلية في رفح ستفاقم الأوضاع الإنسانية
11:45 19.04.2024
صندوق النقد الدولي يتوقع أن يبقى النمو في الشرق الأوسط مكبوحاً
11:30 19.04.2024
صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة وورلد برس فوتو لعام 2024
11:15 19.04.2024
فيضانات نيجيريا تزيد من نقص محصول الكاكاو
11:00 19.04.2024
قطر تعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار في غزة
10:45 19.04.2024
بوركينا فاسو تطرد ثلاثة دبلوماسيين فرنسيين بسبب نشاطات تخريبية
10:30 19.04.2024
اليونيسف طفل يصاب أو يموت كل 10 دقائق في غزة
10:15 19.04.2024
الهند تشهد أكبر انتخابات في تاريخها بمشاركة مليار ناخب
10:00 19.04.2024
المياه تغمر نحو 18 ألف منزل في روسيا بسبب الفيضانات العارمة
09:45 19.04.2024
الحرس الثوري الإيراني يعلن تحديد مواقع المنشآت النووية الإسرائيلية ويحذر تل أبيب
09:30 19.04.2024
أجندة واسعة لزيارة إردوغان للعراق
09:15 19.04.2024
السفير الأمريكي في أذربيجان يزور أغدام
09:00 19.04.2024
بوركينا فاسو تطرد ثلاثة دبلوماسيين فرنسيين بسبب نشاطات تخريبية
01:00 19.04.2024
ميرزايف : هذه المحاكمة تأخرت 30 عاما
17:00 18.04.2024
علي الحوفي: من الأفضل للجميع أن يعم السلام والاستقرار في المنطقة
16:00 18.04.2024
فؤاد عباسوف: من يريد السلام مع جاره لا يحاكمه!
15:00 18.04.2024
سياسي أوكراني : انسحاب الجيش الروسي من قراباغ انتصار سياسي لأذربيجان
14:00 18.04.2024
موسكو تدعم رئاسة كازاخستان لمنظمة شنغهاى للتعاون
13:00 18.04.2024
هل كان وجود قوات حفظ السلام الروسية في قراباغ يمثل تهديدا لأذربيجان؟
12:00 18.04.2024
ميرزاييف: كنت أنتظر انسحاب قوات حفظ السلام الروسية لقراباغ بفارغ الصبر
11:30 18.04.2024
البنك الدولي يعتزم توصيل خدمة الكهرباء لـ 300 مليون أفريقي
11:15 18.04.2024
الانتقام الإيرانى كثيف وناعم ومثير
11:00 18.04.2024
اليونيسف استشهاد ما يقرب من 14 ألف طفل في غزة منذ بدء الحرب
10:45 18.04.2024
تركيا تتهم نتانياهو بـدفع المنطقة إلى الحرب للبقاء في السلطة
10:30 18.04.2024
ترقب في مجلس الأمن للتصويت على عضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة
10:15 18.04.2024
ما مدي عدالة محكمة العدل الدولية ؟ - أومود ميرزايف يجيب
10:00 18.04.2024
الاتحاد الأوروبي يتجه لتصنيف الحرس الثوري الإيراني كمنظمة إرهابية
09:45 18.04.2024
ملكا الأردن والبحرين يرفضان كل ما يؤدي إلى الهجمات البرية على رفح
09:30 18.04.2024
الجزائر تقدم مساهمة مالية استثنائية لوكالة الأونروا
09:17 18.04.2024
الكرملين يؤكد الانسحاب من منطقة قراباغ
09:04 18.04.2024
إيقاد شعلة أولمبياد باريس في أولمبيا القديمة
19:00 17.04.2024
أفضل 30 وجهة سفر عالمية لعام 2024
18:00 17.04.2024
سياسي أرميني يوجه نقدًا لاذعًا إلي محكمة العدل الدولية
17:00 17.04.2024
سيلين سينوكاك : فرنسا تشن حملة دبلوماسية لزعزعة الاستقرار في المنطقة
16:00 17.04.2024
جميع الأخبار