قد أصبحت اللغة العربية لغة عالمية منذ أزمنة تبعُد كثيراً من القرن العشرين الذي أعلنت فيه الأمم المتحدة بصورة رسمية أن العربية هي لغة من لغات العالم . وفي حقيقة الأمر إن العربية كانت لغة العالم أثناء زمن الخلافة العربية الإسلامية أي في العصر العباسي القديم حيث كانت بغداد أهم المراكز الثقافية في العالم كله ويعود الفضل الي تلك اللغة وثقافتها المتطورة المتجددة والتي أثرت بالإيجاب في تطوير قيم الثقافات الأخري وإنضاج النهضة الأوروبية ولولا اللغة العربية وثقافتها ما كان التقدم الغربي الحديث والنهضة الأوروبية.
وأؤكد أن النهضة الأوروبية نشأت فأثمرت بفضل اللغة العربية والثقافة العربية الإسلامية. إذن من حقنا أن نفخر باللغة العربية ومن المعروف لكل انسان مثقف أن العربية هي لغة العالم على مدى عصور متتالية وقبل قرار الأمم المتحدة. اذا أخذنا بعين الإعتبار هذه الحقيقة التاريخية العلمية فيبدو واضحا أن عدد السكان الناطقين بلغة ما ليس معياراً وحيداً وأساسيا للتسليم بأن اللغة هي لغة العالم. لا شك أن اللغة العربية لديها هذا "الشرط" أيضاً نظراً لأن الجزء الكبير من البشرية ينطقون بها "ينطق بالعربية حاليا حوالى 734 مليون" إلا أن لديها شرطاً أو معياراً مهماً - أقصد بأن العربية هي لغة العالم لأنها أنشأت وشيّدت الكون الثقافي الكامل إبتداء من صدر الإسلام حتي زمننا هذا وقد أنشئت بفضل تلك اللغة المملكة الثقافية العلمية العالمية التي ليست هناك كلمات وافرة للتعبير عن أهميتها بالنسبة لتاريخ العلم العالمي وثقافته. يمكن الحديث حول هذا الموضوع لمدة ساعات إلا أنني أود في الوقت الذي نحتفل فيه عن أهمية اللغة العربية واعتبارها لغة العالم قَاطبَةً أن أشدد ولو بكلام قصير على وضع اللغة العربية حالياً في البوسنة والهرسك. أنا أعرف أن هناك إمكانيةً أن نتحدث عن وضع العربية الحالي في البوسنة من نواحٍ مختلفة إلا أنني أقصد أن أتحدث عن الموضوع من مكاني أو مرتبتي الجامعية وذلك وفقاً لتجربتي في الموضوع.
ومضادا لكلمتي الإيجابية السابقة المتعلقة باللغة العربية أعترف - مع الأسف الشديد - أنني لا أستطيع أن آتى اليوم بالمعلومات الإيجابية المتعلقة بوضع اللغة العربية الأكاديمي في البوسنة والهرسك. إن كلية الفلسفة بجامعة سراييفو تحتفل بذكري 72 سنة من تأسيسها ومعنى ذلك إن اللغة العربية وآدابَها تُدَّرس في الكلية أثناء نفس الفترة وبدون انقطاع حتى إبان حصار سراييفو. ومن المعروف أن اللغة العربية كانت في البوسنة تُدَّرس في المدارس الثانوية المختلفة قبل ذلك الوقت الحديث إلا أنني أشدد علي دراسات اللغة العربية و آدابها في المستوى الأعلى أي في الجامعة. أحيطكم علماً بأن كلية الفلسفة هي المؤسسة الوحيدة في جامعة سراييفو المتخصصة والمسؤولة بدراسات العربية وآدابها كمواد أصيلة وأساسية. في تلك الكلية تُدَّرس اللغة العربية إبتداء من حرف الألف حتي أطروحات الماجيستير والدكتوراه في مجال اللغة العربية وآدابها. وأيضاً في كلية الفلسفة فقط تجري الإمتحانات لمترجمي المحكمة في العربية، فيها فقط تتم معادلات الشهادات في مجال اللغة العربية وآدابها للخريجين من خارج البوسنة. اذاً لا شك أن هذه الحقائق تشهد بأن الوضع الأكاديمي النظامي للغة العربية هو في المستوى الأعلى.
هذا ولكن هناك تناقض يكمن في الحقيقة أن المجتمع البوسني وهيئاته لا تهتم بظروف دراسة العربية التي توافق لوضعها العالمي ولأهميتها الحقيقية في البوسنة. لا بد لي من القول راجياً منكم سعة صدوركم لأنها الحقيقة الجلية إن البلدان العربية أيضاً لا تهتم كثيراً بدراسة ونشراللغة العربية في هذا المستوى الجامعي. أريد أن أشير في سياق هذا الحديث إلى الحقيقة أن شعبة اللغة العربية بكلية الفلسفة في سراييفو كانت تطلب أثناء السنوات الأخيرة من بعض البلدان العربية خبيراً في اللغة العربية لممارسة الحديث مع الطالب إلا أن هذه المحاولات بقيت دون نتيجة. أنا متأسف جداً لأننا بحاجة إلى مساعدة البلدان العربية في تعليم اللغة العربية والتعلم بها. أرجو منكم مرة ثانية مسامحتي في هذه المناسبة وفي سياق هذا الحديث إلا أنني أعتقد بأن كلماتي هذه هي في مصلحة اللغة العربية وثقافتها وذلك وفقا للحقيقة أن اليونسكو قد منحتني جائزة "الشارقة" سنة 3003 لمجهوداتي في مجال اللغة العربية وثقافتها. وأيضاً أرجو منكم التسامح أن أذكر هنا بعض الأمثال التي تشهد وتدل بعدم الإهتمام بدراسات اللغة العربية من ناحية الهيئات البوسنية وغيرها من الهيئات او البلدان التي في استطاعتها مساعدتُنا.
ففي شعبة اللغة العربية وآدابها يعمل حالياً كوادر عددهم أقل بكثير من الكوادر في الأقسام الأخرى بالكلية. وقبل أن أصبحت متقاعداً كنت أوجه مرات عديدة طلباتي إلى الهيئات المختصة مصراً في إعلان المسابقة لإختيار ولو مساعد واحد علماً بأنه لا مستقبل للشعبة بدون المساعدين. أعتقد أن هذه الحقيقة سلبية تماماً أو تكاد تكون كارثة وأعتقد في نفس الوقت أنها تعبير عن التفوق الثقافي من جانب الأقسام الأخرى ومن جانب المسئولين في الكلية. وبالإستناد إلي تلك الحقائق أتكلم علناً وبكل صدق أن الإستشراق في سراييفو إبان السنوات الأخيرة تحت الضغط أو المنع إلى حد ما بالرغم من أنه لا يمكن تصور فيلولوجيا الكلاسيكية عامة بدون الإستشراق أي بدون اللغات الشرقية.
وخلاصة الأمر استنتج من هذه الإزدواجية في المعاملة ازاء اللغة العربية في البوسنة أننا نواجه استراتيجية معينة والتي هدفها تعقيد دراسات اللغة العربية على المستوى الجامعي في البوسنة والهرسك. وأيضا لا بد لي من القول إننا في قسم الإستشراق بكلية الفلسفة لا نجد دعماً استراتيجياً من البلدان العربية في تعليم تلك اللغة العالمية الهامة. إن الأساتذة في شعبة اللغة العربية ليست لديهم فرص لنشر أطروحاتهم في الماجيستير والدكتوراه أو الأبحاث العلمية الأخرى وفي نفس الوقت لا يمكن تقدمهم في المرتبات الجامعية بدون نشر الأبحاث. لا نجد مساعدة من أي ناحية. وفي نهاية الأمر أعتقد أننا قد أصبحنا ضحايا لعدم الإهتمام بالعربية ولعدم إرشاد بين الأولويات.
انتهز هذه الفرصة أن أعبر عن سروري الآن في استطاعتي أن ألقي الكلام بهذه مناسبة السعيدة إلا أنني أعبر في نفس الوقت عن أسفى الشديد لأنني تحدثت بكل صدق وأمانة عن وضع اللغة العربية الصعب في البوسنة والهرسك. أنا أعرف كل المعرفة أن أساتذتي الكرام في الشعبة وأنا شخصياً نبذل كل جهودنا من أجل رفعة ونشر اللغة العربية وآدابها وفي تقوية وضعها في هذه الدولة والمجتمع بغض النظر عن الصعوبات التي نواجهها. وعندئذ نذكر تلك الآية الكريمة: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون".
بقلم: أ. د. أسعد دوراكوفيتش- سراييفو- البوسنة والهرسك