تخوض الولايات المتحدة والصين حربا نفسية كبيرة وهادئة تعكس حجم عدم الثقة المتبادلة بين أكبر قوتين عسكريتين واقتصاديتين فى عالم اليوم.
ويدعم هذا الشك المتبادل أسوأ الافتراضات والمعتقدات المتعلقة بدوافع ونوايا كل منهما تجاه الآخر، وهو ما دفع الكثير من المعلقين للتأكيد على بدء حرب باردة بالفعل بين واشنطن وبكين، وسط مخاوف من الانزلاق إلى صراع عسكرى لا يرغب أى طرف فى الوصول إليه. وبعيدا عن اللغة الدبلوماسية، والمجاملات السياسية، تخوض الدولتان صراعا حول النفوذ، وإحدى الأدوات التى تلجأ إليها واشنطن وبكين هى شيطنة الطرف الآخر فى مختلف مناطق التنافس بينهما حول العالم.
عقب لقاء قمة جمع بايدن بشى فى مدينة بالى بإندونيسيا خلال شهر نوفمبر الماضى، على هامش قمة العشرين الماضية، اتفق الرئيسان، الأمريكى جو بايدن والصينى شى جين بينج، على ضرورة التغلب على الخلافات بطرق غير عدوانية والبعد عن الخطاب العدائى المتبادل. ويقول الرئيس الصينى إنه يجب على البلدين التعامل بشكل صحيح مع العلاقات الصينية الأمريكية بموقف المسئولية تجاه التاريخ.. والعالم، فى حين يكرر بايدن أنه مستعد للقيام بكل ما يمكنه القيام به لتحسين العلاقات مع الصين.
إلا أن الأحداث دفعت تجاه طريق مغاير، وتبنى الطرفان مواقف حادة أمام كل أزمات علاقات الدولتين. وليست تلك المرة الأولى التى تتحدث فيها الولايات المتحدة والصين عن ضرورة استقرار العلاقات، وإذا كان لهذا أى فرصة لحدوث ذلك، فسيحتاج الاثنان إلى التوقف عن المبالغة فى رد الفعل تجاه بعضهما البعض فى كل مناسبة.
وعلى سبيل المثال، قطعت الصين الاتصالات مع الولايات المتحدة حول قضايا عديدة هامة عقب قيام نانسى بيلوسى، رئيسة مجلس النواب السابقة، بزيارة غبية لتايوان العام الماضى، وكان رد الفعل الصينى مبالغا فيه بشدة. وكذلك كان رد الفعل الأمريكى بإلغاء زيارة بلينكن للصين فى فبراير الماضى ردا على حادثة منطاد التجسس الصينى.
على الرغم من ارتفاع حجم التبادل التجارى بين الدولتين ليصل إلى 691 مليار دولار العام الماضى، وما يعنيه ذلك على حركة الأموال والبضائع والبشر بين الدولتين، لا تزال العلاقة الرسمية بين الدولتين فى أدنى مستوياتها منذ تطبيع العلاقات فى سبعينيات القرن الماضى. وتعد قضية تايوان البارود الأخطر فى علاقات الدولتين، والتى تكشف عمق الشك والعداء المتبادل بينهما.
تسلط الحوادث المتكررة والتى كان من بينها حادثتان وقعتا خلال الأسابيع الأخيرة، وتجنب فيها الطرفان الصينى والأمريكى الصدام المباشر، عن هشاشة الأوضاع والترتيبات العسكرية فى منطقة بحر جنوب الصين ومضيق تايوان. وطبقا لرواية الجيش الأمريكى، فإن سفينة عسكرية صينية كادت تصطدم بمدمرة أمريكية فى مضيق تايوان، حيث اقتربت منها بنحو 150 ياردة فقط، وهى مسافة قصيرة جدا بالنسبة لحجم هذه السفن الضخم. وقبل ذلك بأيام، وقعت حادثة أخرى خطيرة فى الجو، حيث قطعت طائرة صينية الطريق أمام طائرة استطلاع أمريكية فوق بحر جنوب الصين، وكادا أن يصطدما.
ولا تستبعد كثير من التحليلات أن تؤدى واحدة من هذه الحوادث إلى اندلاع اشتباك فى حال إسقاط طائرة أو تدمير سفينة، وهو ما قد يترتب عليه رد فعل من الطرف الآخر، مما قد يؤدى إلى اندلاع اشتباكات مسلحة لا يريدها أى طرف.
من هنا جاءت أهمية زيارة وزير الخارجية تونى بلينكن للصين قبل أيام والتى أفضت لنتائج جيدة، إذ إن القيام بالزيارة نفسها يعد إنجازا فى حد ذاته، ثم كان لقاء بلينكن بالرئيس الصينى شى جين بينج، بمثابة تتويج لرغبة الطرفين فى خفض حدة التوتر بينهما.
لكن ذلك لا ينفى أن واشنطن تعتقد أن مواقفها تجاه الصين حميدة ومبررة، وأن الصين تشكل تهديدا عسكريا لهيمنتها العالمية، وتعتقد الصين الشىء نفسه عن الولايات المتحدة. وتتشكل تصورات الصين جزئيا من رؤيتها لتخل واشنطن عن سياسة «صين واحدة»، والتى تبنتها منذ الاعتراف بالصين. فى الوقت ذاته، تعمل الصين على خلق وفرض واقع جديد حول تايوان من خلال استخدام وسائل عسكرية أكثر عدوانية، وتكرار اختراق المجال الجوى الاقتصادى لتايوان ودعم الهيمنة الصينية العسكرية حول الجزيرة التى تعتبرها بكين إقليما صينيا منشقا.
يصر مسئولو إدارة بايدن على أنهم لا يريدون حربا باردة، أو تقسيم العالم إلى كتل جيوسياسية معادية وإجبار الدول الأخرى على اختيار أحد الجانبين. ومع ذلك، فقد اتخذت الإدارة سلسلة من السياسات التى تعتبرها بكين على أنها تفعل ذلك بالضبط. ويشمل ذلك المبادرات التى تهدف إلى مواجهة الصين عسكريا، ولا سيما اتفاقية أواكس مع أستراليا والمملكة المتحدة، والحوار الأمنى الرباعى مع أستراليا والهند واليابان، ومحاولات توسيع دور الناتو فى آسيا.
فى الوقت ذاته، تستمر الصين فى بناء ترسانتها العسكرية، كما وكيفا، بصورة تعكس رغبات مستقبلية فى منافسة الهيمنة الأمريكية حول العالم، والسيطرة على مجالها الإقليمى فى منطقة المحيطين الهندى والهادى، وهو ما يزعج كل جيران الصين التى ترى فى مواقف بكين ما يزعزع استقرار الهيكل الأمنى الآسيوى الذى حافظ على السلام لعقود.
ومع انعدام الثقة من كلا الجانبين، يتخذ كل منهما إجراءات يعتبرها معقولة تماما، ولكن ينظر إليها على أنها إهانة وتهديد من قبل الطرف الآخر، مما يسرع من حلقة مفرغة من الفعل ورد الفعل. من هنا إذا لم تتمكن الدولتان من تصحيح هذه المفاهيم الخاطئة وإعادة التوجيه نحو المصالح المشتركة، فإن زيارة بلينكن والعبارات الدبلوماسية المنمقة لن تمثل سوى فترة هدوء قصيرة فى المسار العام نحو صراع خطير.
محمد المنشاوي
كاتب صحفي متخصص في الشئون الأمريكية
للتواصل مع الكاتب: [email protected]