بقلم : أحمد عبده طرابيك
يعد عماد الدين نسيمي الذي عاش خلال القرن الرابع عشر الميلادي من المتصوفين القلائل الذين استطاعوا المزج بين التصوف والفلسفة والدين ، وقد نظم الشعر باللغات العربية والتركية والفارسية ، حيث ترك ديواناً بالتركية وآخر بالفارسية إلي جانب عدد كبير من القصائد باللغة العربية ، ولأنه من أتباع مذهب فضل الله الاستر آبادي المعروف بالحروفية ، فقد اشتهر نسيمي بالسيد عماد الدين الشيرازي البغدادي الحروفي ، وبينما عرف كشاعر بنسيمي .
تعمّق عماد الدين في دراسة الفلسفة والفلك والمنطق والرياضيات وعلوم الطبيعة ، ومن أقواله الفلسفية " أنك تحتاج كي ترى وجهي إلى عين تستطيع أن ترى الله " .
وكان يجيد اللغة الفارسية إلى جانب لغته الأذربيجانية ، وكذلك اللغة العربية . وقد كتب باللغات الثلاث واستطاع أن يرسخ الأذربيجانية لتكون لغته في الإبداع الأدبي ، وقد ترك ما يزيد عن عشرة آلاف بيت في مختلف الموضوعات.
أمّا ديوانه بالفارسية فضم حوالي خمسة آلاف بيت ، وتعرض شعره بالعربية إلى الضياع أو الإتلاف فلم يصل منه إلا المقطوعات اليسيرة . اعتنق نسيمي " الحروفية "، الذين يعتقدون أنه يمكن التوصل إلى معرفة أسرار الوجود عن طريق معرفة سر تبادل الأرقام والأعداد والحروف.
وهي فكرة كان فيها جرأة في التفكير وقوة في مواجهة رجال الدين المتشددين آنذاك ، وأصبح واحداً من دعاتها، وسافر لأجل ذلك إلى تبريز وبغداد فأقام فيهما فترات طويلة ، وقد تزوج ابنة أستاذه فضل الله النعيمي " فاتحة الكتاب " بوصية منه، وقد ترك شيروان عام 1396 م ، بعد إعدام أستاذه متجهاً إلى بلاد الروم ، حيث لقي الإكرام من شعرائهم ، فالتفوا حوله ، وسحرهم بإشراق بيانه وروعة شعره ، وما أظهره من تصوّف وزهد وورع .
عندما بدأ نسيمي التصريح بدعوته " الحروفية " ، رأى العلماء أنها خروج على الإسلام ، فثاروا ضده ، ولاحقته السلطات العثمانية ، وتعرض إلى السجن والتعذيب ، ثم غادر الدولة العثمانية متجهاً إلى حلب بعد رحيل الأمير تيمور عنها ، في عام 1401 م ، ويبدو أنه قد أحدث تأثيراً حسناً في نفوس القائمين عليها ، فاجتمع بتلامذته ومريديه ، يشرح لهم أفكاره ويقرأ عليهم شيئاً من أشعاره ، واستمر في دعوته وكثر أتباعه.
يعد نسيمي واحداً من الشعراء العالميين الذين يرقون إلى منزلة الشاعر الكوني ، حيث كان له عالمه الخاص الذي يحملنا إليه بسحر البيان ، وعالمه هو الإنسان ، التزم بقضيته ، وناضل من أجل حريته ، وأعلى منزلته ، ومن أجل ما دعا إليه قدم حياته ثمناً ، حيث يقول : " وجه الإنسان أصبح الآن هو الحقيقة ، ما نحن لهذا الإنسان الجدير بالمعرفة " ، وبهذا يصبح الإنسان هو السلطة نفسها ، وهو الطريق والغاية ، وهو العاشق والمعشوق ، ويرجع سر ابداع نسيمي الشعري إلي كونه نابعاً من تجربتين : تجربة عاطفية ، وتجربة روحية ، ومن تناغم هاتين التجربتين يعود سر الألق والفرادة في شعره .
كتب نسيمي باللغة التركيه والفارسيه ، كما كتب منظومات باللغة العربية تحت تأثير الشعر التركي واستعملت نفس الصيغ والتراكيب والشكل والمضمون حتى الوزن وقد طبع ديوانه ثلاثة أجزاء من القطع الكبير في باكو باللغة التركية وبحروف عربية ، وبالتدقيق في الدواوين الثلاث فيمكن ملاحظة أن نسيمي قد جعل جميع شعره وقفا لمذهبه وهو الارشاد إلى تعاليم الصوفية وتغزل بذات الله ، وأن الانسان عنده هو المرأة التي تجلى فيها الجمال الإلهي .
يقول في احدى غزلياته باللغة العربيه وهو من بحر الكامل : حاشاك تنساني وتنكر صحبتي وهواك في ديني ووجهك قبلتي أنت العليم بأن حبك قاتلي ما حاجة أشكو إليك قضيتي هذا ومالي زلة أعلم بها الأهواك ولم أثب عن زلتي اسقيتني من كأس حبك شربة يفنى الزمان ولم أفق من سكرتي فوجق مابيني وبينك في الهوى من صدق ايمان وحفظ مودتي أني مقيم على العهود ولم أحل أبدا وهذا شاهدي في مقلتي يتسم شعر نسيمي بأنه خاص لمعانيه الغربية ورموزه الخفية ولايفتح سره ويحل عقده وطلسمه إلا من له حظ عظيم في العلم لأنه يورد دائما تعابير صوفية مغلقة بعيدة عن فهم العوام ، حيث يقول بأن الوصول إلى المعشوق هو الفناء لأجله ، والمعشوق هنا هو ذات الله ، وهذه آخر درجة ينالها الصوفي ، وأن في حياتهم الخاصة درجة وهي السكر لأجل الذات ، وهو السكر الإلهي وبهذا يخلد الإنسان في كنه مذهبه.
ويقول في قصيدة طويلة باللغة العربية في بحر الهزج التركي : اني لقد اتصلت بالذات يا منقطع الوصال هيهات لما قرن الصعود نجمي ابدأ قمري بالاتصالات في الكأس تلألأ الحميا يكفي لك هذه العلامات في حبك كل عاشق هالك ما صار شهيداً إنه مات يا من أنا أنت أنت عيني من بعد تساقط الإضافات من ضل فإنما عليها هذا لك كافياً واثبات لفظ نسيمي آخر أنفاسه أمام أسوار قلعة حلب عام 1417 م ، ودفن في الزاوية المعروفة باسمه " زاوية نسيمي " ، في حي الفرارة بحلب ، تجاه القلعة، في الجهة الشمالية منها، غربي المدرسة الإسماعيلية قرب حمام السلطان .
في عام 1973 ، احتفلت أذربيجان واليونسكو ومجلس السلم العالمي بذكرى مرور 600 سنة على ميلاد الشاعر والمفكر عماد الدين النسيمي .
وفي عام 1989 ، أهدت حكومة أذربيجان مدينة حلب تمثالاً لنسيمي ، وضع في الجناح الإسلامي بحلب ، كما تم اهداء ديوان نسيمي المطبوع بالتركية وديوانه المطبوع بالفارسية ، إلي اتحاد الكتاب العرب ، كما أقيم له تمثال شاهق في احدى ساحات العاصمة باكو.
وفي 27 من سبتمبر 2018 ، وعلي مدار أربعة أيام تحتفل وزارة الثقافة بجمهورية أذربيجان بذكري مرور 645 عام علي مولد الفيلسوف والمتصوف والشاعر والمفكر عماد الدين نسيمي . تأتي هذه الاحتفالات في وقت تشهد فيه الكثير من البقاع في العالم صراعات دموية ، وانتشار الأعمال الارهابية الناتجة عن الأفكار المتطرفة ، فتحولت جهود الدول والشعوب والكثير من ثرواتها من حقول التنمية وميادين التعمير والبناء إلي محاولة التصدي لتلك الأعمال التي تهدد أمن وسلامة الإنسان .
فما أحوجنا جميعاً إلي الاقتداء بأفكار نسيمي وآراءه الفلسفية الابداعية في التفكر والتدبر فيما يفيد الإنسان ويصلح شأنه وحياته فيفوز بسعادة الدنيا ونعيم الآخرة .