ذهبت قبل بضعة شهور لزيارة الأستاذ “سيمور نصيروف” في مؤسسة الحلقة التي يديرها والتي تقدم خدمات ثقافية وتعليمية جليلة خصوصًا لطلاب العلم الوافدين من الدول غير الناطقة بالعربية.
والأستاذ “سيمور” هو رئيس الجالية الآذارية في مصر، وهو رجل أزهري فخور بأزهريته قدر فخره بآذاريته، وهو جسر من جسور الثقافة والإنسانية التي تربط بين الشعبين المصري والآذاري.
ولقد تحدثنا في موضوعات كثيرة تارة باللغة التركية وأخرى باللغة العربية، وفي نهاية الزيارة أهدى إلي مجموعة من الكتب الخاصة به والخاصة بأنشطة مؤسسة “الحلقة”.
ولقد انشغلت فترة من الوقت عن قراءتها وعن معرفة محتواها إلى أن شاءت ارادة الله ووقعت عيني على كتاب “تراجم أذربيجانية في المصادر العربية حتى القرن العاشر الهجري”.
فتحت هذا الكتاب وأخذتُ اتصفحه بادئًا بالمقدمة التي دائمًا ما أعطي قراءتها أولويةً أكثر من قراءة باقي صفحات الكتاب، بل دائمًا ما تكون المقدمة بالنسبة لي هى الدافع على استكمال قراءة الكتاب أو تركه ووضعه في المكتبة إلى ما لا نهاية.
وعندما تصفحتُ مقدمة الكتاب سالف الذكر وجدتها مشوقةً، ليس إلى استكمال قراءة الكتاب فحسب بل إلى معرفة كل ما يخص دولة أذربيجان، تلك الدولة الإسلامية التي تربطنا بها وبشعبها روابط ثقافية تضربُ بجذورها في أعماق التاريخ، وتكية الشيخ “ابراهيم الكلشني” المشهورة والواقعة في منطقة الدرب الأحمر وسط القاهرة، شاهد حي وبرهان قوي على تأصل العلاقات المصرية الأذارية، وتعتبر هذه التكية الجاري ترميمها حاليًا من قِبل الحكومة المصرية أول مؤسسة دينية تم تأسيسها في القاهرة في العهد العثماني، حيث تم أنشاؤها عام 1519م، ومؤسسها هو الشيخ الصوفي “إبراهيم الكلشني” ولد في أذربيجان وعاش في القاهرة وتوفى بها عام 1534 بعد أن تجاوز المائة عام من عمره.
ولقد عرفتُ من تلك المقدمة أن أجداد الشعب الأذاري قد ساهموا بمساهمات كبيرة في بناء صرح الحضارة الإسلامية، وأن بينهم وبيننا نحن العرب صلات وروابط تاريخية وثقافية يجب على الباحثين خصوصًا الباحثين في الدراسات التركية دراستها والتركيز عليها وإبرازها، ولقد تذكرتُ مقولة المرحوم الأستاذ الدكتور الصفصافي أحمد المرسي، أستاذ الدراسات التركية بكلية الآداب جامعة عين شمس، والتي كان يقولها دائمًا عندما يأتي إلى كلية اللغات والترجمة لمناقشة إحدى الرسائل العلمية حيث كان يقول “يجب علينا أن نتجه إلى آداب أتراك أسيا الوسطى ونقف عليها بالبحث والدراسة، فهى آداب تستحق الدراسة والاهتمام، وشعوب آسيا الوسطى تربطنا بهم العديد من الروابط الثقافية والتاريخية”.
وبالفعل نحن في حاجة ماسة إلى دراسة آداب وتاريخ الدول التركية في آسيا الوسطى التي جاء إلينا منهم قادة أثروا في حياتنا وثقافتنا وحكموا دولنا فترات طويلة وعلى رأسهم القائد البطل “صلاح الدين الأيوبي” التي تشير مقدمة الكتاب سالف الذكر إلى كونه أذربيجاني، وكذلك “الظاهر بيبرس” المملوكي الكازخي.
أما في العلم والثقافة فحدث ولا حرج عن علماء آسيا الوسطى الذين أثروا الحياة العلمية بمؤلفاتهم القيمة في شتى العلوم والفنون، ويُعد من أشهرهم الإمام البخاري المولود في مدينة “بخارى” في “أوزبكستان”، وكذلك “الإمام البيضاوي” الأذري صاحب كتاب “أنوار التنزيل وأسرار التأويل” والمعروف باسم “تفسير القاضي البيضاوي” وهو كتاب مهم يعتمد عليه الباحثون وطلاب العلم، كما أنه يُعتبر أول كتاب تفسير تم تدريسه في أول مدرسة تم تأسيسها في الدولة العثمانية، والتي أسسها السلطان العثماني “أورخان بن عثمان” ثاني سلاطين العثمانيين عام 1327م.
وكذلك في الطب والفقه واصوله وعلم الكلام وعلم الحديث وغيرهم من العلوم كان هناك مئات من العلماء الأذريين الذين ضربوا أروع الأمثلة في تخصصاتهم وصاروا رموزًا وأعلامًا فيها.
وربما يجد القارئ العربي بعض العلماء والأعلام الأذاريين قد وُلِدوا في مدن أخرى خارج الحدود السياسية لأذربيجان في الوقت الراهن.
السبب في ذلك أن أذربيجان كانت في الماضي دولة كبيرة وبها ثروات ضخمة كانت سببًا في تعرضها للاعتداءات والمؤامرات التي نتج عنها أن أصبحت بعض مدنها في السابق خارج حدودها في العصر الحالي.
والآن تُعتبر أذربيجان دولة قوية في جميع المجالات السياسية والاقتصادية ولها تجربة ديمقراطية هى الأعرق في آسيا الوسطى، وإنني لانتهز هذا المقال فرصة لتهنئة الشعب الأذاري الشقيق بمرور مائة عام على قيام دولتهم الديمقراطية، متمنيًا لهم دوام الأمن والرخاء.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي شباب النيل وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً