محمود سعد دياب
جاء تدشين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جسرا جديدا يربط بين شبه جزيرة القرم ومقاطعة كراسنادار جنوبي روسيا، لكي يشكل علامة جديدة في الصراع الدائر بين روسيا الاتحادية من ناحية وأوكرانيا ومن خلفها أمريكا والغرب من ناحية أخرى، حيث قامت السلطات الأوكرانية قبيل ساعات من الافتتاح باقتحام ومكتب كالة "نوفوستي أوكرانيا" في كييف العاصمة واعتقلت الصحفي الروسي كيريل فيشينسكي.
ما حدث يعتبر حلقة من حلقات صراع طويل بين روسيا وأوكرانيا حول تبعية شبه جزيرة القرم، حسمه الاستفتاء الذي جرى أرض الأخيرة لتحديد المصير حيث صوت 73% من القرميون لصالح الانضمام إلى روسيا، لكي يبدأ الرئيس بوتين بعدها إجراءات إحداث تنمية وتطوير بشبه الجزيرة كان أكبرها الجسر الذي يعتبر الأطول في أوروبا، وأرسل رسالة سياسية واقتصادية إلى أوكرانيا والغرب بأن القوة الروسية ستعود إلى مرحلتها في عهد الإمبراطورية القيصرية، وذلك من خلال قيادته بنفسه شاحنة تقدمت طابور شاحنات روسية عبرت الجسر، وذلك وفقًا لما قاله أحمد مصطفى الباحث ومدير مركز آسيا للدراسات والترجمة.
وتكتسب شبه جزيرة القرم "على مساحة 26000 كيلو متر مربع" أهميتها الإستراتيجية من تموضعها في البحر الأسود على مقربة من مضيقي البسفور والدردنيل اللذين يربطانه بالبحر الأبيض المتوسط من جهة، والقوقاز – بما في ذلك شمال القوقاز الروسي – من جهة أخرى.
القرم ملتقى للمصالح الإستراتيجية
من جانبه؛ قال الباحث أحمد مصطفى مدير مركز آسيا للدراسات والترجمة، إن القرم كانت على مدى التاريخ تعتبر ملتقى للمصالح الإستراتيجية لدول عدة، في مقدمتها روسيا وتركيا، والدول الأوروبية الكبرى.
وأضاف أن إمارة القرم دخلت تحت السيادة الروسية عام 1783، في زمن حكم الإمبراطورة كاثرينا الثانية بعد انتصار روسيا على الدولة العثمانية، وأنه فيما بعد أصبحت شبه الجزيرة مسرحا لمعارك شرسة في كل من الحرب الشرقية (1853-1856)، التي خاضتها روسيا ضد تحالف بمشاركة كل من تركيا وبريطانيا وفرنسا ومملكة سردينيا، والحرب العالمية الثانية (1941-1945)، وسجّلت معارك الدفاع عن مدينة سيفاستوبول، المقر التاريخي لقواعد أسطول البحر الأسود الروسي، وأن كلتا الحربين مثلتا صفحات مجيدة في التاريخ الوطني الروسي.
أسطول البحر الأسود
وأكد مدير مركز آسيا للدراسات والترجمة لـ"بوابة الأهرام"، أن الاتحاد السوفييتي منذ تفككه عام 1991 تقاسم أسطوله في البحر الأسود بين روسيا الاتحادية وأوكرانيا، موضحًا أن الأخيرة هي "وريثة" شبه جزيرة القرم في العهد السوفييتي وحصلت عليها بموجب قرار إداري عام 1954 بمبادرة من نيكيتا خروشوف، مضيفًا أن شروط بقاء الأسطول الروسي في القرم أصبحت موضوعا حساسا في العلاقات بين موسكو وكييف، وأنه تم تحديد وضع الأسطول القانوني من خلال سلسلة من الاتفاقيات بين الجانبين.
الثورة البرتقالية
ولفت أحمد مصطفى الباحث في الشئون الروسية، إلى أن القوى المناهضة لروسيا في أوكرانيا، ومنها زعماء "الثورة البرتقالية" الموالية للغرب التي قامت عام 2004، تسببت في إنهاء حالة التوافق وطرحت مرارا مسألة إنهاء بقاء الأسطول الروسي في شبه الجزيرة، لكن الاتفاقية التي وقعها رئيسي البلدين في مدينة خاركوف الأوكرانية عام 2010 مددت مدة مرابطة الأسطول الروسي حتى عام 2042، مقابل دفع روسيا مبلغا مقداره 100 مليون دولار سنويا نظير الإبقاء على قواعدها البحرية في سيفاستوبول.
وأضاف أن التقلبات السياسية الأخيرة التي وقعت في أوكرانيا، وأوصلت للحكم في كييف قوى لا تخفي عدائها لموسكو، رفع من حدة التوتر بين البلدين، ما اعتبر مهددًا من جديد لمسألة بقاء الأسطول الروسي في شبه الجزيرة، وأن ذلك أثار قلقًا في موسكو كان من أبرز دوافع دعمها لحراك شعب القرم ضد حكام أوكرانيا وتعبيره عن إرادته الانضمام إلى روسيا، إلى جانب رغبتهم في حماية الروس لهم من هجمات القوميين المتشددين الأوكران بوصفهم ذات أغلبية تترية مسلمة.
تصفية الخطر المحدق
وأشار إلى أن قبول انضمام القرم إلى روسيا سمح لها بإزالة الخطر المحدق بوجودها العسكري في منطقة ذات أهمية إستراتيجية بالغة بالنسبة لها، كما أنه رفع هيبتها كدولة تدرك مصالحها وتقدر على حمايتها، خصوصًا وأن الانضمام تم من خلال استفتاء رسمي صوت فيه سكان القرم وفى وضع مستقر، ما أكسبه أهمية ومصداقية.
استفتاء القرم .. واستفتاء كوسوفو
وأكد أن استفتاء تقرير المصير بخصوص القرم، يختلف عن التصويت الذي أجراه حلف الناتو وأمريكا لإقليم كوسوفو للانفصال عن ألبانيا، والذي تم بنسبة تطال 52% وفي أجواء غير مستقرة، وكذلك تقسيم كل مناطق نفوذ روسيا في أوروبا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق.
وأضاف أن الغرب عمومًا وفي المقدمة منه الولايات المتحدة يقدمون دعمًا لأوكرانيا ضد روسيا، ردًا على الدور الروسي الناجح في سوريا وإنقاذ الدولة السورية من مخطط التقسيم وسيطرة التنظيمات الإرهابية المتشددة، لدرجة أن الولايات المتحدة طالبت بضم أوكرانيا لحلف الناتو على الرغم من أنها دولة فقيرة.
أهمية الجسر الإستراتيجية
وأوضح مدير مركز آسيا للدراسات والترجمةـ أن بناء جسر القرم يشكل خطوة هامة نحو إبطال العقوبات الدولية المفروضة ضد روسيا بحكم الأمر الواقع، حيث شاركت في بناء الجسر شركات ألمانية وأمريكية وبريطانية وهولندية وفنلندية ويابانية فضلا عن مقالع جرانيت أوكرانية عملت في بناء الجسر ومصنع يعود ملكيته –وفقًا لبعض التقرير- إلى الرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو نفسه.
فوائد الجسر لوجيستيا
وقال إن الجسر الممتد جنوب غربي البلاد بطول 19 كم فوق مضيق كيرتش بين بحر آزوف والبحر الأسود، قد استغرق تشييده 27 شهرا وبلغت كلفته 228 مليار روبل، أي قرابة 3,7 مليار دولار، وأنه من المخطط أن تكتمل عملية تكامل البنية التحتية في شبه الجزيرة بحلول نهاية العام 2019 بافتتاح جسر سكة حديد موازي لطريق السيارات، وأن هذا الطريق سيتمكن من نقل ما يصل إلى 40 ألف سيارة في اليوم، فضلا عن وجود خطط لفتح خط للشاحنات في الخريف المقبل، بالإضافة إلى رفع البنية التحتية للقرم كمصيف مهم لروسيا، وتحسين شئون سكان القرم بمختلف طوائفهم الاقتصادية والاجتماعية الذي سيعود عليهم من الاستثمارات ومن السياحة المقبلة.
.
.
.
.