يحدث في سوريا وفي شوارع دمشق ليس في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى ما يبدو تلعب النساء دوراً متكرراً في بناء الأوطان بعد الحروب، كما حدث في ألمانيا واليوم في سوريا.
فبالقرب من أحد أرصفة منطقة جرمانا في ريف دمشق وقفت سيدة ممسكة بمقشتها الطويلة تزيل الأوساخ المتجمعة هناك، وتجمعها في كيس ضخم، كررت عمليتها هذه بإتقان لعدة مرات بمثل حرص السيدات على تنظيف منازلهن.
بالرغم من حرارة شمس الصيف، لكن همة أم محمود لم تفتر، واستمرت بعملها من الصباح وحتى الظهيرة، وهي تغطي وجهها بوشاح كي يرد عنها بعض الحرارة في صيف دمشقي لاهب.
أخبرتنا السيدة أم محمود، بأنها انضمت لعملها هذا قبل عدة أشهر، وهي المرة الأولى التي تمارس فيه عملاً خارج المنزل، ولكن الفقر ومشاكل التهجير هي التي دفعتها للتفكير بالنزول للشارع والعمل هناك، ولأنها لا تملك مهنة أو شهادة جامعية، وجدت في هذا العمل فرصتها الوحيدة.
توضح في حديثها لـ«البيان»، بأنها في البداية كانت قلقة من الفكرة بعض الشيء، ولكنها قررت الدخول في التجربة والحصول على قوت يومها بعرق جبينها بدلاً من الوقوف في الطابور بانتظار الجمعيات الخيرية، وتشجعت أكثر حينما لاحظت تعاون الناس معها وتشجيعهم لها.
حالة تشرّد
تحن أم محمود لقريتها وهي النازحة من ريف دير الزور، حيث كانت تعمل بالزراعة هناك، وتملك أرضاً كبيرة تغنيها هي وعائلتها عن السؤال، وتؤمن لهم دخلاً مقبولاً، ولكنها خسرت كل شيء وأصبحت مشردة من منطقة لأخرى حتى وصلت بعد رحلة صعبة وخطرة إلى دمشق، واستقرت في أحد أريافها -بمنطقة جرمانا- في منزل لا يشبه المنزل بشيء، حيث تقيم مع ابنتيها، وتنتظر عدة أشهر كي ترى ولديها الملتحقين بالجيش ليزوراها ضمن إجازاتهما.
لا تخجل أم محمود من عملها الحالي، وتقول بأنها لم تعد تملك شيئاً لتخسره، فقد خسرت الكثير، ولم يبقَ لها سوى الكرامة، وهي تحافظ عليها من خلال العمل الشريف بدلاً من انتظار المعونات وسؤال الناس، خاصة أنها أم لفتاتين، ومسؤولية المحافظة عليهما وتأمين حاجاتهما ليست بالسهلة.
خسارة الزوج
وغير بعيد من أم محمود وقفت شابة ترتدي ملابس مشابهة للتي ترتديها السيدة الديرية السابقة، وتعمل بهمة مماثلة، محاولة تخفيف كمية الأوساخ المتجمعة على الرصيف. وعن تجربتها تخبرنا بأنها نزحت قبل بضع سنوات إلى جرمانا بعدما اشتدت الأزمة في غوطة دمشق، وخسرت زوجها خلال هذه الحرب، وهي أم لثلاثة أطفال، فوجدت نفسها فجأة من غير معيل ولا سند، وبدأت البحث عن أعمال توفر لها شيئاً من الدخل، ولكن لم يكن الأمر يسيراً وكان في الغالب عملاً مؤقتاً يرتبط بموسم معين، وما زاد من سوء وضعها أنها لا تملك خبرة بأي مهنة ولا شهادة جامعية.
وتتابع، بأنها التحقت بهذه المهنة رغم العناء الموجود فيها، ولكنها تؤمن لها لقمة العيش ومصدر رزق شريفاً يحميها وأولادها من المذلة، وتشير إلى كمية الأوساخ المنتشرة في الشارع، مضيفة، نقضي ساعات طويلة كي نجمع ما يرميه الناس في الشارع، وعملنا متعب؛ لأن جرمانا أصبحت مزدحمة ومكاناً لتجمع النازحين والمهجرين.
تؤكد أنها لم تتعرض لإزعاجات خلال عملها، ولكنها تفضل وضع وشاح على وجهها كي ترد عنها الشمس وفي الوقت ذاته تبعد عنها عيون الفضوليين، خاصة أنها شابة صغيرة في بداية العشرينيات، وتخشى التعرض لأي مضايقات تؤثر على عملها ودخلها.