يعتبرالمركز الدولي لحوار الحضارات الذي انطلق في محاضراته وأنشطته العلمية والفكرية سنة 2014فهو يكرس مبادرة انسانية متميزة لتعزيز التقارب بين الشعوب، التي يتجسم عليها التفاعل بين الشعوب والأمم، والتي تشمل الانفتاح على الآخر واعتماد الحوار والتفاهم أساسا للتعايش.
وقد جاء المركز الدولي لحوار الحضارات والأديان تكريسا لهذا التوجه الإنساني لإرادة الخير من أجل نماء وتقدم البشرية وتتويجا لما أرادته الأمم جميعا من خلال إعلان منظمة الأمم المتحدة سنة 2001 سنة للحوار بين الحضارات
. إننا كنا من أول وأكثر المنادين بإشاعة قيم التسامح والحوار والتضامن بين الشعوب والأمم، لأن تونس قد تمكنت من إثبات قدرة مثالية في التعامل مع العولمة ومع المتغيرات الدولية الجارية داخليا وخارجيا. ذلك أن الدفع الهام الذي شهدته تونس في هذه السنوات ، من التقدم التكنولوجي للشعوب المتقدمة، والعولمة الاقتصادية، عوامل ألقت بظلالها على منظومة القيم الإنسانية وتموقعها في السلوك الإنساني وفي مصير البشرية. فتشابك المصالح الدولية، وقوة الجذب التي ميّزت العولمة على حساب البلدان والشعوب النامية والفقيرة قد أعطيا مصداقية قوية لتقييم المركز الدولي لحوار للحضارات.
إن المركز الدولي لحوار الحضارات والأديان ليمثل لبنة أخرى من الآليات والمبادرات التاريخية التي أطلقها المركز الدولي من أجل إرساء عالم جديد تنعم فيه البشرية بالأمن والاستقرار والتقدّم والرفاهية، وتتعامل فيه وتتعاون على أساس القيم التي جاءت بها الأديان وتقرها الفطرة البشرية ومن أولها التفاهم والتسامح والحوار والتضامن.
فالمركز الدولي لحوار الحضارات لم ينطلق في مبادرته الجديدة من فراغ ولكنه انطلاق أساسا من تشبع شمولي بالقيم والمبادئ الإنسانية وما تكتسيه من كونية، ثم اعتمادا على ثراء العطاء الذي قدمه المركز الدولي لفائدة الإنسانية من توجهات وأفكار ومبادرات، وأخيرا استنادا إلى مخزون حضاري تونسي ثري في المشاركة البناءة لتونس في الحضارة البشرية وإثرائها عبر التاريخ فكرا ودينا ومنجزات. فتونس مهد التلاقي والحوار، وأرض التسامح والتضامن الإنساني التي انطلقت منها أصول الفقه التنويري المسيحي، والفكر العقلاني والتحديثي للإسلام إلى أوروبا وإفريقيا. ومن وراء البحار كانت دائما بوابة لتاريخ البشرية، ومصدّرة ومستوعبة للقيم الإنسانية، وموطنا لنتاج الإثراء المتنوّع للإنسان.
ولأن تونس كانت عبر التاريخ ملتقى الحضارات المتوسطية ونقطة التلاقي بين الحضارات الإفريقية والآسيوية والغربية حيث تتلاقح الشعوب والأديان وتستوعب مجالات الاختلاف والتكامل بينها، وتتواصل مع بعضها البعض أخذا وعطاء، يأتي اليوم "المركز الدولي لحوار الحضارات والأديان" ليعزز هذه التجربة الحضارية الإنسانية الثرية وليحيي أمجادا تونسية في نشوء وبقاء وتطور حضارة الإنسان.
من هنا يبرز الهدف الإستراتيجي لهذا المركز غير المسبوق الذي تأسس سنة 2014 فالتعريف بتونس وسخاء عطائها الحضاري للبشرية يصبح من هذا المنظور ذا أهمية خاصة. فالتواصل بين الشعوب على أساس ثراء التجارب وتنوّع الثقافات، يعكس فلسفة استراتيجية تتأسس على التنوع والتلاقح الحضاري الذي شهدته الأرض التونسية. فتونس التي كانت رافدا حقيقيا في ثراء حضارة الإنسان، هي اليوم أيضا رافد فعلي ونضالي من أجل حضارة إنسانية أرقى وأفضل، وهو بالتحديد ما يعمل المركز الدولي على إنجازه من جهة، وعلى التعريف به في العالم من جهة أخرى.
ان تونس التي نجحت في التعريف بقيمها الأصيلة في بناء الحضارة تاريخيا وفي العصر الحديث، وعزمها على مواصلة الاضطلاع بدورها الحضاري في المستقبل، تنجح اليوم في تحقيق التلاقح والتفاهم المنشودين مع الشعوب الأخرى من خلال التواصل معها في إطار "المركز الدولي. هذا التواصل الذي يتم من خلال فتح فضاءات المركز الدولي لحوار الحضارات والأديان في تونس للتعريف بالتجارب الأخرى، وبالثقافات المختلفة للشعوب، ولإشاعة قيم الحوار والتضامن بينها، وإبعاد شبح الصدام بين هذه الثقافات والحضارات لان بقاء النوع البشري رهين بالتعاون والتنمية المشتركة القائمة على أساس فهم الآخر وتفهّمه والتحاور والتضامن والتواصل معه، بما يدرأ أسباب القطيعة وتنمية مشاعر الظلم والغبن والحقد والكراهية، تلك المظاهر التي ما انفك الرئيس بن علي يحاربها على كل الواجهات العالمية السياسية والديبلوماسية والثقافية، والاقتصادية والمالية وغيرها
إن هذا الفضاء الدولي لا يعتمد فقط الدروس والمحاضرات الأكاديمية بل يعتمد غزارة العطاء المعرفي وتنوعه لينشر ذلك في مختلف الأوساط ويكون موجها لمختلف الشرائح المؤهلة لاستيعاب شتى المعارف الإنسانية التي يمكن أن تقدمها محامل ثقافية ومعرفية متنوعة مثل المحاضرات والندوات.
ان مثل هذه المبادرة الانسانية تقدم المضامين المتميزة للعطاء الحضاري والثقافي لتونس بما يبرز الوجه المشرق حقا لما قدمته للبشرية، فقليلون في العالم هم أولئك البحاثة الأكاديميون الذين يعرفون أن تونس كانت قدمت للعالم أحد أقدم الدساتير المكتوبة وأقدم المعاهدات الديبلوماسية مثلا، أو أن الفقه المسيحي الحديث انطلق من تونس على يد القديس أوغستين، وأن كتابة اللغة الفينيقية شهدت انطلاقتها في عهد قرطاج، وأن صناعة السفن الحربية واستعمال مادة النحاس في الصناعة، وتصنيع الزراعة وغيره كل ذلك انطلق من تونس ليشمل العالم.
إننا ندعوا للقيام بقراءة نقدية للتاريخ ولمراجعة السياسات التي نمّت شعورا بالظلم لدى بعض الشعوب لفائدة واقع إنساني ودولي جديد أكثر عدلا وتوازنا وتسامحا وحوارا.
الأستاذ الشيخ الزيتوني لطفي الشندرلي رئيس المركز الدولي لحوار الحضارات.