من المعلوم أن السكن والعمل والتعليم حاجات أساسية وحق لكل إنسان يكفله الدستور، ويُفترض بالدولة تأمين وحماية هذه الحقوق عبر خططها واستراتيجياتها للمواطنين جميعاً من دون استثناء. لكن هذه الحقوق في المجتمع السوري تعرّضت لاهتزازات شديدة منذ أواسط ثمانينات القرن الـ20، ما جعل الناس عموماً، والشباب خصوصاً يعانون من مشكلات اجتماعية وصعوبات معيشية كبيرة، ساهم تفاقمها واستمرارها حتى يومنا هذا في اندلاع الأزمة التي عصفت بالبلاد عام 2011.
فمشكلة البطالة، لا سيما في أوساط الشباب، كانت ولا تزال من المشكلات المُقيمة والمُعنّدة، والتي يتولّد عنها بالتأكيد مُشكلات وأمراض اجتماعية أخطر كالسرقة والمخدرات والدعارة والكسب غير المشروع. يُضاف إليها مشكلة لا تقلُّ عنها خطورة، وهي أزمة السكن وغلاء العقارات شراءً أو استئجاراً، حتى غدت دمشق مثلاً منافساً لأرقى مدن العالم بأسعار العقارات. وأيضاً طفت على السطح مُشكلة الدروس الخصوصية لا سيما لتلامذة الشهادتين الإعدادية والثانوية والتي صارت عبئاً مرعباً للأهل، فتُرصد له موازنات خاصة في الأسرة التي لديها أبناء في المدرسة، وهذا ناجم بالتأكيد أولاً عن تدنّي مستويات المتخرجين المؤهلين للتدريس من جهة، وازدياد أعداد الطلاب في الشُعَبْ الصفّية، ما يؤثّر في شكل أو في آخر على دقّة المعلومات المُقدّمة للتلامذة ونوعيتها. وثانياً بسبب تدنّي قيمة الرواتب والأجور بالنسبة لغلاء أسعار المستلزمات المعيشية من أدناها وحتى أعلاها، ما دفع بعدد كبير من المدرّسين إلى استغلال هذه الظروف والدفع في اتجاه الدروس الخصوصية.
إذا كُنّا هنا نتحدّث عن الأعوام السابقة للحرب، فكيف هو الوضع اليوم بعد مضي 8 أعوام على اندلاع نيرانها والتي لم تنتهِ في بعض المناطق، والتي لا يزال صداها وآثارها في «المناطق المحررة» حاضرة وبقوة على عموم السوريين؟
اليوم، باتت الحياة أكثر قسوة، وتأمين متطلباتها أشدُّ ضراوة من الحرب ذاتها، ذلك أن تبعات الحرب من دمار وتهجير وخراب، وضرورة الترميم أو البناء أو الحصول على مسكن مقبول تركت الناس في صراع مع البطالة والغلاء من أجل البقاء على قيد الحياة. ولا شكّ أن أكثر الشرائح تضرراً من هذه الحال هم الشباب باعتبارهم يُقبلون على الحياة ومتطلباتها بكثير من الأمل والطموح لا سيما بعد انتهاء الحرب، لكنهم لا شكّ سيصطدمون بمختلف المشكلات آنفة الذكر، والتي غالباً ما تغتال تلك الآمال والطموحات التي عقدوا العزم على تحقيقها بكل ما أوتوا من قوة وعزيمة وجهد.
فالشّاب محسن، الذي أنهى خدمته الإلزامية التي استمرت 8 أعوام، كان قبلها يُهيئ لبناء مسكن له فوق مسكن العائلة، ويُعدُّ العدّة بعدها للزواج. لكنه وبعد تلك الأعوام خرج خالي الوفاض من كل أمل بتحقيق ولو جزء يسير ممّا عقد العزم عليه سابقاً، حيث أن الغلاء وضعف الإمكانات المادية لديه بدّدا كل أمل بإمكان البناء في المدى المنظور على أحسن تقدير، على رغم أنه من الشُبّان المحظوظين فهو موّظف قبل الخدمة العسكرية، وعاد بعدها إلى وظيفته ذاتها، لكنه للأسف مُقيّد الخطى سواء تجاه تأمين السكن، أو حتى الإقدام على الزواج بحكم المهور المرتفعة من جهة، وتكاليف الزواج من جهة أخرى، فما بالنا بشبّان آخرين أمضوا مدّة الخدمة ذاتها على غرار محسن، لكنهم بلا وظيفة سابقة وثابتة، وبعضهم بلا منزل أسرة يؤسسون عليه؟
محسن اليوم في حالة من التيه والشرود والإحباط لا يمكن وصفها، وغالباً ما يلوذ بتناول المشروبات أو تراه سارحاً على غير هدى في الشوارع والحارات.
مؤيّد هو الآخر شاب تخرّج من الجامعة منذ عامين، همّه الوحيد أن يجد عملاً يليق بشهادته الجامعية ومؤهلاته العلمية، لكن لا حياة لمن تنادي. ففرص العمل باتت أقلّ بكثير ممّا كانت عليه قبل الحرب، لا سيما لمن لا سند له أو مسؤول كبير يدعمه. مع مرور الوقت تنازل عن شروط العمل الذي يبحث عنه، وقبل بأعمال أدنى من حيث الخبرة أو الأجر، لكن مشكلاته لم تُحلّ بسبب أن الراتب ينفق ما بين تكاليف المواصلات والمعيشة بحدودها الدنيا، وما يزيد الأمر تعقيداً وألماً أن والدته مصابة بمرض عضال يتطلّب علاجاً وأدوية لا طاقة له بها، لذا تراه أحياناً يعمل بالعتالة (حمالاً) في المحلات التجارية ليتمكّن من تأمين حاجات البيت والعلاج.
هذان نموذجان فقط عن وضع الشباب السوري اليوم، واللذان يمكننا القول أنهما النموذجان الأكثر اعتدالاً وبُعداً من الأمراض الاجتماعية والنفسية الناجمة عن هذه الأوضاع الصعبة والمريرة، حيث هناك نماذج أخرى تاهت ما بين الدعارة والمخدرات والسرقة لأنها لم تجد أمامها طريقاً آخر تسلكه كي تتمكّن من تلبية حاجات الحياة الأساسية.
بالتأكيد، وممّا سبق ذكره، صارت غالبية شبابنا أمام معادلة عصيّة على الحلّ، وحلم مستحيل التحقيق بدءاً من العمل مروراً بتأمين البيت والزواج وبناء أسرة وإنجاب أطفال. والمؤلم بالموضوع أنه قبل الحرب كان في إمكان أبناء الطبقة الوسطى في المجتمع وعلى رغم الصعوبات الموجودة آنذاك، وببعض الدعم من الأهل أو الاقتراض من المصارف، أن يحلموا حتى بشراء سيارة. لكنهم اليوم عاجزون عن تأمين مستلزمات قوتهم اليومي حتى من دون بيت أو زوجة وأطفال.
باعتقادي أن المشكلة لا تكمن فقط بالحرب وتبعاتها، وإنما تلعب الحكومات ومنذ ما قبل الحرب دوراً أساسياً في استمرار هذا الوضع المُزري بالنسبة للشباب، الذين يُعوّل عليهم بناء مستقبل البلاد والمجتمع، وذلك بفعل تهميشهم الذي كان حاضراً وبقوة سواء من حيث تأمين فرص عمل أو حلّ أزمة السكن أو التدخّل الإيجابي في ما يتعلّق بالزواج والتشجيع عليه وفق ما نصّ الدستور.
واليوم، إن لم يتمّ تدارك هذا الوضع بالنسبة للشباب، لا يمكننا التنبؤ بما سيكون عليه مستقبلهم ومستقبل البلاد.