أوليغ كوزنتسوف، العالم السياسي والمؤرخ الروسي، حصرياً لـEurasia Diary
للوهلة الأولى، فإن الأحداث في الحياة السياسية الداخلية في أرمينيا تتطور باتفاق تام مع شرائع المسرح اللامعقول، عندما تتخذ الشخصيات نفسها إجراءات غير منطقية وغير متناسقة على التوالي. في 1 مايو، صوت الحزب الجمهوري الذي يتمتع بغالبية الأصوات في البرلمان الأرميني ضد تعيين زعيم احتجاجات الشوارع في يريفان باشينيان، رئيساً للوزراء. ولكن في اليوم التالي 2 مايو، بين رئيس كتلة الجمهوريين في البرلمان أن الحزب لم يرشح أي شخص للرئاسة وسيدعم أي مرشح ينال أغلبية ثلثي الاقتراع الثاني. لا يوجد أي سبب للشك في أن البرلمانيين الأرمن من الحزب الجمهوري سيؤيدون المرشح الذي صوتوا ضده من قبل. يبدو أن الوضع خال من أي منطق، ولكن إذا نظرنا عن كثب، يمكن إظهار المنطق والوضوح والثبات. علينا أن نغير زاوية الرؤية فقط.
ويكمن السبب الرئيسي لقرار الحزب الجمهوري الأرمني المسدل النقاب عليه في عجز مسئولي حزب "الجمهوريين" الأرمن في ضمان أي منافس حقيقي لنيكول باشينيان في درجة الثقة وشعبية بين السكان. إن مشكلة جميع رؤساء الدول السلطوية هي أنهم لا يتحملون في بيئتهم أناساً متساوين معه في الذكاء والكاريزما والتصميم في صنع القرارات والإجراءات. وبعبارة أخرى، لم يكن في الحزب الجمهوري الأرميني ساركسان الثاني. وإدراكاً لذلك، قرر أعضاء البرلمان الأرمني من الحزب الحاكم الاستسلام للمعارضة، حيث قاموا بالتفاوض المبدئي على بعض الأفضليات والمكافآت.
يبدو أن سيرج سركسيان الذي يقيم منذ أسبوع في فيلا خاص له في ضواحي موسكو خذل نواب البرلمان من الحزب الجمهوري. وأنهم بدورهم لم يستمروا في إظهار المبدئية والتضامن التعاوني والانضباط الحزبي للحيلولة دون تولي باشينيان منصب رئيس الدولة، كما طالب منهم الكرملين. بل على العكس، غطوا سلامه إلى الرئاسة ببساط أحمر، مطالبين في المقابل، على الأرجح، بضمانات لحصانتهم البرلمانية وعدم إجراء الانتخابات البرلمانية الجديدة. لن أتفاجأ بمثل هذه التطورات في الحياة السياسية لأرمينيا، عندما يعلن نواب الحزب الجمهوري الأرميني حل الحزب وانضمامهم إلى بنيته باشينان الحزبية السياسية، مما يضمن الأغلبية البرلمانية. بالنسبة للجماهيرالشعبية، سيتم تفسير هذه الخطوة بالحاجة إلى ضمان استقرار وضع في البلاد، وانعدام الأموال اللازمة في ميزانية الدولة لتنظيم الانتخابات البرلمانية المبكرة وغيرها من الأسباب البعيدة. لكن السبب الحقيقي هو: السلطة في يريفان ستنتقل من سيطرة موسكو بحكم الواقع إلى سيطرة واشنطن، وبعد ذلك لن تحتاج إلى إضفاء الشرعية على شكل انتخابات برلمانية جديدة ...
لا شك في أن الحزب الجمهوري الأرميني كان قادراً على اتخاذ مثل هذا القرار المؤيد لترشيح باشينيان في حينه عشية 1 مايو أثناء أول التصويت. وهناك السؤال المعقول: لماذا حدث هكذا؟
والجواب على ذلك بسيط جداً: كان البرلمان الأرمني في حاجة ماسة إلى تعيين باشينيان في منصب رئيس الوزراء يوم 8 مايو. هناك تفسيران عقليان لهذا التاريخ:
أولا، 8 مايو 1992 احتلت القوات المسلحة الأرمنية وعصابات الانفصاليين الأرمن من قاره باغ الجبلية مدينة شوشا، المركز الإداري لولاية قره باغ الجبلية ذاتية الحكم السابقة لأذربيجان، والعاصمة السابقة لإمارة قره باغ، المدينة المقدسة للأذربيجانيين وللأرمن أيضاً. ولذلك، فإن انتخاب باشينيان رئيس الدولة في ذلك اليوم يعبر في نظر جميع الأرمن في العالم عن استمرارية الأنظمة السياسية في أرمينيا فضلاً عن أن السلطات الأرمينية الجديدة لا تنوي الاستغناء عن التراث التاريخي "لعشيرة قاره باغ".
ثانياً، من وهلة انتخاب باشينيان رئيساً لوزراء أرمينيا، سيبدأ تعويض الأموال الأجنبية المستثمرة في وصوله إلى السلطة في هذا البلد يوم 8 مايو. لا ينبغي أن ننسى، أنه في 7 مايو تقام مراسيم تنصيب فلاديمير بوتين الذي انتخب للمرة الرابعة لمنصب الرئيس الروسي. وفي اليوم الأول من فترة ولايته الجديدة سيتلقى صفعة سياسية في وجهه: رئيس الدولة في أرمينيا تماما بشكل قانوني أصبح علنا سياسياً موالياً للولايات المتحدة وحرمت روسيا فجأة من الحليف الذي ينتقل عمدا وبرشاقة إلى حماية المنافس الجيوسياسي الرئيسي وحتى عدو روسيا. لا نتفاجأ إذا أدي باشينيان اليمين الدستورية يوم 9 مايو لتوجيه صفعة سياسية أخرى لفلاديمير بوتين شخصياً في وجهه: بإجباره على تهنئة باشييان الموالي لأمريكا بالرعاية الكاملة للبروتوكول الدبلوماسي بين الحلفاء في يوم النصر. في ذلك اليوم الذي يعتبر في روسيا العيد الرئيسي بمعناه الأيديولوجي.
من الجدير بالذكر أن أوروبا تحتقل بالنصر على ألمانيا الهتلرية في الحرب العالمية الثانية في الثامن من مايو. ربما يكون من الأفضل أن يثبت انتخاب باشينيان في هذا اليوم للكرملين أن الغرب هو الفائز الأصلي في الحرب، ولم يكن بائزاً على ألمانيا هتلير فقط، بل أيضاً على روسيا بوتين. وللتأكد من عدم تجاهل هذه الحقيقة، سيتم إطلاق حملة دعاية مناسبة في الوسائل الإعلامية الأرمينية والأوكرانية والبلطيقة الناطقة باللغة الروسية ولكن المناهضة لروسيا. مع ذلك، لا يستطيع الكرملين أن يفعل أي شيء، لأنه من البداية لم يكن مستعداً لمثل هذا الصاعقة والإخفاق الكبير لسياسته الخارجية في الاتجاه الأرمني.
كانت أحداث الماضي، ليست فقط أسابيع، بل حتى أشهر، في أرمينيا تتطور وفقا للسيناريو المعادي لروسيا، ولكن في موسكو استمروا بسذاجة في الإيمان بولاء يريفان واستقرار النظام السياسي الموالي لروسيا في أرمينيا. لكن كل هذا تحول إلى خيال وخدعة، فضلاً عن معلومات مضللة المقدمة إلى الكرملين من قبل وزارة الخارجية الروسية بشأن الوضع الحقيقي في هذا البلد. وفي هذا الصدد، تشير الموازية التاريخية بين الأحداث التاريخية التي تفصل بينها 30 سنة بالضبط، 1988 و2018 بوضوح. في عام 1988، خدع السياسيون الأرمن القيادة السوفييتية وفي عام 2018 القيادة الروسية. وفقا للقانون الثالث من الديالكتيك، يتطور التاريخ في شكل الحلزون، ولكن لأول مرة يظهر في شكل مأساة، وفي الثانية في شكل مهزلة، في وسطها يظهر اليوم الرئيس الروسي المنتخب حديثا فلاديمير بوتين.