الملحمة وسير الأبطال
من بين كل الكتابات التاريخية، حظيت قصص الأبطال والعظماء بمكانة خاصة في الوعي الإنساني، حيث مثلت تلك القصص نموذجاً يحتذى به الناس ويقتدون، كما شكلت نبراساً لهم ومنارة يهتدون بها.
سيرة الأبطال، والتي سنسميها في كتاباتنا تجاوزاً بالملاحم، لم يتم تدوينها على مرحلة واحدة كما يعتقد البعض، بل إنها في حقيقة الأمر قد تمت كتابتها وتأليفها، من خلال عدد من العمليات الابداعية الادبية التي اختلط فيها الواقع التاريخي الصادق بالخيال الأدبي الجامح، وهي تلك العمليات التي انتجت في النهاية، بعد طول مخاض، بالنسخة النهائية لما نعرفه حالياً من سير لهؤلاء الأبطال.
يمكن أن نقسم مراحل تكون وتشكل السيرة الملحمية، لثلاث مراحل أساس، ولكل منها مواصفات وسمات زمنية ونوعية مختلفة، تلك المراحل الثلاثة هي: - مرحلة وقوع الحدث , مرحلة التناقل الشفوي, مرحلة التدوين
مرحلة وقوع الحدث
تلك المرحلة هي التي تشهد وقوع الأحداث التي سيتم التأريخ لها بعد ذلك، في تلك المرحلة تتلاحق الوقائع بعضها وراء بعض، وتبدأ شخصية البطل في النمو والاكتمال شيئاً فشيء، بحيث ينتهي به الأمر وقد أضحى ذي دور فعال في التأثير على الدوائر المحيطة به وتغيير مسار التاريخ بشكل جزئي أو كلي.
مما يجدر ملاحظته في تلك المرحلة، أن البطل فيها لا يعرف مصيره، كما لا يعرف ما ستؤول عنه الأحداث في المستقبل، وكذلك يكون الحال بالنسبة للأشخاص المحيطين به، سواء كانوا من أعدائه ومناوئيه أو من أصحابه ومناصريه، فالبطل بالنسبة لهم وقتها يكون مثله مثل أي عنصر إنساني أخر، يشارك في الحدث ولكنه لا يستأثر بالسيطرة أو التحكم.
مرحلة التناقل الشفوي
تبدأ تلك المرحلة مع وصول البطل للسلطة أو للنجاح، حيث يصبح حينها على قدر من الشهرة، ويتزايد ذلك القدر طردياً مع احكام قبضته على الحكم أو تحقيقه لنجاحات متتابعة في مجال عمله.
ففي تلك اللحظة التاريخية تحديداً، يبدأ اختلاق شخصية روائية جديدة، هي ببساطة تمثل الرؤية الشعبية لشخصية البطل التاريخي، ويسير خط تطور الشخصية الروائية في اتجاه مغاير لاتجاه الشخصية التاريخية، وان استأنس الخط الأول بالمحطات المهمة في الخط الثاني.
وإن كان تشكل الخط الثاني (التاريخي)، سيعتمد على ما سيستجد من أحداث ووقائع وصراع مع القوى والجهات المختلفة، فإن الخط الأول (الروائي) سوف يكون اعتماده في المقام الأول على مشاعر الرواة وميولهم العاطفية ومواقفهم من السلطة القائمة، وطبيعة تعاطيهم مع المجتمع والدولة.
ومما قد يثير التساؤل، السبب الذي دعا بالرواة لاختلاق الاحداث غير التاريخية، ومزجها بالروايات التاريخية
والحقيقة أن تفسير تلك المسألة من الصعوبة بمكان، ذلك أن النفس الإنسانية تنزع لا شعورياً للتعاطي مع ما يمر بها من أحداث سلباً أو إيجاباً، وهي مجبولة على التهويل أو التقليل، الإفراط أو التفريط، المبالغة في المدح والاعجاب أو المبالغة في القدح والذم، وهي أمور لا تزال أصدائها حاضرة في كتب التاريخ مع اعترافنا بميل كتابها للموضوعية والحياد بقدر امكانهم.
بل ويمكن آن نلاحظ أثر تلك النزعة في الكثير من الشؤون الحياتية، والدينية منها على وجه الخصوص، فكم من أحاديث أختلقها أصحابها ونسبوها إلى الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، لا لشيء إلا رغبة في الإصلاح وحباً في الدين.
وحتى الأن لا تزال تلك النزعة –اختلاق بعض المواقف والأحداث لغاية إصلاحية أو لهدف نبيل-حاضرة وبقوة، وعلى سبيل المثال يمكننا أن نستشهد هنا بأحد المنشورات المنتشرة على بعض مواقع التواصل الاجتماعي
جاء في المنشور
(ألقت شرطة أبو ظبي القبض على أب انتحر بينما كان ينظف سيارته الجديدة، حيث فوجئ الأب بأن ابنه البالغ من العمر سنتين أخذ مسماراً وبدأ يخدش جانب السيارة، فقام الأب وبغضب شديد بضرب يد ابنه دون أن يشعر بأنه كان يضربها بمقبض المطرقة!!!
انتبه الأب متأخراً لما حدث وأخذ ابنه للمستشفى، وفقد الابن إصبعاً بسبب الكسور التي تعرض لها! وعندما رأى الابن أباه قال له: متى سينبت إصبعي يا أبي؟
وقع السؤال كالصاعقة على الأب فخرج وتوجه إلى السيارة وقام يضربها عدة مرات، ثم جلس أمامها وكله ندم على ما حدث لابنه، ثم نظر إلى مكان الخدش على السيارة وقرأ ما كتبه ابنه: "أحبك يا أبي..."
في اليوم التالي لم يحتمل الأب فانتحر! !!!
نهاية المنشور
من المؤكد أن القصة شيقة، وتنجح في استجداء نعاطف القراء واثارة أحزانهم، ولكن لو أعدنا قراءتها مرة أخرى بشكل متجرد، لوجدنا بها ثلاث أسئلة تدل على تلفيق القصة وفبركتها بشكل كامل.
هذه الأسئلة هي
· هل هناك أحد ينظف ﺳﻴﺎﺭﺗﻪ بالمطرقة؟
· كيف يكون عمر الطفل سنتان ويستطيع كتابة أحبك أبي؟ وكيف يستطيع الكلام فيقول متى سينبت إصبعي يا أبي؟
· كيف قبضت الشرطة على الأب وهو منتحر؟
هكذا ﺗُﺼﺎﻍ أغلب الأحداث ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ والدينية والمذهبية والعقائدية، فيتم الانسياق ﻭﺭﺍء العاطفة ﻭيُهمل العقل ﻓﻼ يجري تفكير عميق في الرواية قبل التصديق بها.
ومما تجدر ملاحظته هنا، أن عملية التناقل الشفوي، لا تتم لمرة واحدة، بل إنها تتكرر لمرات عديدة، وفي ظروف مختلفة وأماكن متباينة، ويشرف عليها رواة مختلفون في مهارة الحكي، وفي القدرة الابداعية الأدبية، فبعض هؤلاء النقلة يكون من الشعراء وبعضهم يكون من الأدباء، وقد يكون قسم منهم من التجار وأهل الحرف والصنائع.
محمد يسري