تذكير:
ربما كان من المناسب ونحن في معرض تقديمنا لسلسلة مقالات، يتركز محور اهتمامها على كيفية كتابة التاريخ، وطريقة سرد تفاصيل الملحمة الإنسانية وسير الأبطال على وجه الخصوص، أن نبدأ بالإشارة إلى بعض التفاصيل المهمة المرتبطة بماهية التاريخ وطرق التعامل معه، ومناهج تفسيره، وطريقة المؤرخين في صياغة أحداثه وتفاصيله.
مرحلة التدوين
مرحلة التدوين الكتابي هي المرحلة الختامية في صناعة سيرة الأبطال، في هذه المرحلة يتم تدوين الملحمة الشفوية لتصبح مكتوبة.
ويمكن أن نصف مرحلة التدوين، بانها مرحلة التأريخ الرسمي والمعتمد للشخصية، ومما تتسم به تلك المرحلة إنها غالباً ما تأتي بعد فترة ليست بالقصيرة من زوال أثر الشخصية المباشر.
فأغلب مدونات العصور القديمة، تمت كتابتها بعد انقضاء الأحداث بمئات السنين، وكذلك أحداث العصور الوسطى في بعض المناطق التي لم تنتشر فيها الكتابة، مثل منطقة شبه الجزيرة العربية.
من الملاحظات المهمة على مرحلة التدوين، إنها غالباً ما تتم في سياق مذهبي أو ديني أو أيديولوجي معين، وإنها ترتبط بشكل أو بأخر بالسلطة القائمة حينذاك، وربما يفسر ذلك الجملة الشائعة التي ترى بأن التاريخ يكتبه المنتصرون.
عملية التدوين، هي في حقيقة الأمر اخضاع اللانهائي واللامحدود - والذي يتمثل في الكم الهائل من الروايات الشفوية التي تم تناقلها منذ لحظة وقوع الأحداث وحتى لحظة التدوين- لما هو نهائي ومحدود- والذي نقصد به الحجم الثابت للكتاب الذي ستدون به الروايات وهو مهما كبر يظل حجماً ثابتاً، هذا الأمر تطلب من المُدون أن ينتهج آلية معينة للانتقاء والاختيار، قد تبنى تلك الألية على أساس مصلحة برجماتية، مثل محاولة المؤرخ لأن يرتزق بكتاباته وأن يتقرب بها من ذوي السلطة والنفوذ طمعاً في منصب أو مال، وقد تنبني ألية اختياره على مذهبه وعقيدته، فلا يختار من الروايات إلا ما يوافق اعتقاده وثوابته الدينية المذهبية فيصححه ويجزم بصدقه، ويطرح كل ما هو دون ذلك جانباً متعللاً بكذبه وفساده.
كل هذا يمكن أن نجمله بقولنا، إن مرحلة التدوين التاريخي -مع أهميتها-فإنها واقعياً ليست أكثر من محاولة للتوفيق والتوليف.
كذلك ينبغي ملاحظة، أن المدونات الأولى قد نُفذت من قبل أشخاص متخصصون، مختلفون عن المدونون الذين قدموا من كل صوب وحدب، فالمدونون لهم مزايا يتفوقون بها على الرواة، فهم بالضرورة متعلمون، ودارسون لمناهج دينية في الأغلب، مما أضفى عليهم سمت الالتزام والصرامة.
فإذا كانت مرحلة الرواية هي المرحلة التي شهدت الحس الأدبي والخيالي المتجرد من الضوابط والمحددات العقلية، فإن مرحلة التدوين هي المرحلة المضادة، والتي ساد فيها نزعة الرجوع للضوابط والاحتكام للعقل، أو ما أن نسميه بعقلنة ما يمكن عقلنته وطرح باقي الروايات جانباً.
ومن هنا فإن المدونات التاريخية، قد عرفت ما يمكن أن نسميه بالسياق الروائي، والذي هو خطوة عمل عليها المؤرخون بعدما انتهوا من عملية الاختيار، حيث قاموا بربط بعض الروايات ببعض، وفصلوا بين أجزاء بعض الروايات وبعضها البعض، حتى خلصوا في النهاية بعد التهذيب والتنسيق إلى تقديم التاريخ بشكل منمق جذاب، يشد إليه أنظار القراء وعقولهم، ويسد الطريق أمام مخيلتهم التي من الممكن أن تشكك فيما توافر من معلومات وأحداث يقوي بعضها بعضا وتتضافر أشتاتها لتقيم حائط منيع أمام محاولات التشكيك والتفنيد.
ولما كان المدونون الأوائل على دراية بما سيوجهه لهم الباحثون في العصور التالية، من سهام التكذيب والنقد والاتهام، فإننا نراهم قد عملوا على تقديم كتاباتهم بشكل يظهر منه الصدق والتناسق.
ولعل ذلك هو ما يفسر اعتقاد بعض الباحثين المعاصرين في التاريخ، بإنه كلما وجدوا الروايات أقرب إلى الاتفاق والمعقولية في بعض الأحيان، فلربما كان ذلك دليلاً على اختلاق الروايات بدلاً من ان يكون دليلاً على صدقها.
منهج السلسلة وموضوعاتها
في هذه السلسلة من المقالات، سوف نتناول الطريقة التي كتبت بها الملحمة، وأهم النقاط التي تميزها.
فبعد استقراء للعشرات من سير الأبطال والحكام في التاريخ الإسلامي، نستطيع القول بإن هناك ما يقرب من عشرين نقطة جزئية، تشكل مع بعضها البعض النسق الروائي العام لقصص الملاحم والبطولات.
من تلك الجزئيات الارهاص والنسب والتغرب والاصطفاء والاستضعاف والعداء الداخلي والعداء الخارجي والنبوءة وغير ذلك من النقاط التي سنتناول كل واحدة منها في مقالة منفصلة.
بالنسبة للمجال الذي ستغطيه تلك المقالات، فسوف يكون تلك التجارب التي وقعت خلال التاريخ الإسلامي، وسيتم الاستشهاد كذلك بالروافد التاريخية للتاريخ الإسلامي، واقصد بها ثلاثة مصادر رئيسة، المصدر الأول، وهو التراث العربي المنتشر فيما قبل الإسلام، بما يتضمنه ذلك من سير وملاحم كالزير سالم وذي قار وحرب البسوس، والمصدر الثاني، يتمثل في التراث الروائي التاريخي للدول التي احتك المسلمون بها في فترة الفتوحات الأولى، مثل بلاد فارس وبلاد الشام وبيزنطة ومصر، أما المصدر الثالث، فهو التراث الروائي العبراني والمسيحي، والذي شكل مقدمات تمهيدية تاريخية بالنسبة للمسلمين، وذلك من خلال كتابات العهد القديم وما اتصل بها من شروحات وتفسيرات وتعليقات كالتلمود من جهة والعهد الجديد وأعمال الرسل وسير القديسين من جهة أخرى.
ولكن ما هو هدف تلك المقالات؟ هل هو التشكيك في التاريخ المكتوب؟
في الحقيقة، فإن الهدف الحقيقي لتلك السلسلة من الروايات لا يتصل اطلاقاً بمحاولة التشكيك الكلي في المدونات التاريخية الموجودة بين أيدينا، بل يقتصر على فهم الطريقة التي رويت بها الأحداث، وكيف أن تلك الروايات تتشابه مع بعضها البعض في نواتجها الاجمالية رغم اختلاف وتباين الأماكن والأزمنة والأشخاص، وذلك بسبب الطبيعة البشرية الحالمة، التي تنزع دائما لتقديس الأبطال، واضفاء صبغة تقديسية عليهم.
هي إذن محاولة جديدة لقراءة التاريخ، وفهم العناصر الرئيسة التي شكلت الملاحم الإنسانية الكبرى، مع اقرارنا بإن الكثير من تلك الروايات لم يكن أكثر من مجرد أدب روائي شعبي، منحته الظروف المذهبية أو الأيديولوجية أو البرجماتية للمؤرخ فرصة ذهبية للدخول في خضم الأحداث التاريخية الرسمية المعتبرة.