محمود سعد دياب
حالة من الجدل أثارتها مواقف الولايات المتحدة على المستوى الاقتصادي مؤخرًا، فبينما تحاول التفاوض مع الصين لإنهاء الحرب التجارية التي خسرتها لصالح الأخيرة، تسعى للعودة إلى اتفاقية التجارة عبر المحيط الهادئ التي انسحبت منها فور تولي دونالد ترامب سدة الحكم بالبيت الأبيض، لكي تكون سلاحًا لها ضد التنين الصيني الساعي لافتراس الأسواق العالمية وافتقاد الولايات المتحدة السيطرة على السوق العالمية، ما يؤكد أن "العم سام" يناور "التنين" ويسعى لضربه في مقتل في حين ينظر الأخير للأمر بصبر شديد ولا أحد يتوقع ردود أفعاله، وهو ما يدل على أن الأيام القادمة سوف تشهد مزيدًا من فصول تلك المسرحية.
المفاوضات الأمريكية الصينية مجرد مسكنات
فبينما وصل صباح اليوم السبت وزير التجارة الأمريكي إلى بكين، لبدء جولة مفاوضات جديدة حول الحرب التجارية المتوقفة منذ مايو المنصرم، أكد محللون أن تلك المفاوضات ما هي إلا مجرد مسكنات تمهيدًا لعودة الولايات المتحدة مرة آخرى لاتفاقية التجارة عبر المحيط الهادي، والتي كانت قد انسحبت منها في بداية عهد الرئيس دونالد ترامب، وذلك لمواجهة النفوذ والقوة الاقتصادية للصين.
خطة ترامب لعزل الاقتصاد الصيني
ويرى معسكر الجمهوريين بالإدارة الأمريكية أنّ تحالف الدول المنافسة للصين اقتصادياً مثل اليابان وأستراليا وكندا وماليزيا والمكسيك في اتفاق التجارة عبر المحيط الهادئ، من شأنه عزل الاقتصاد الصيني، وهو الأمر الذي أجبر وكما يقول المراقبون ترامب على إعادة التفكير بالعودة إلى اتفاق التجارة عبر المحيط الهادئ.
عداء اقتصادي خارجي مع أوروبا والبرازيل وكندا والمكسيك
وتسببت الرسوم الجمركية التي فرضتها أمريكا على الواردات الأوروبية وواردات عدد كبير من الدول، في خلق حالة عدائية تجاه بلاد العم سام، حيث تحرك الاتحاد الأوروبي على المستوى القانوني وقدم دعوى قضائية أمام منظمة التجارة العالمية ضد ما وصفه بالتعريفات الأمريكية "غير القانونية"، مؤكدًا أنها صدرت بموجب ذريعة كاذبة لحماية الأمن القومي الأمريكي، تتعارض مع التزامات الولايات المتحدة التجارية الدولية، وقواعد منظمة التجارة العالمية، وتبع دول الاتحاد كندا التي أقامت هي الأخرى دعوى قضائية، وقررت مع دول القارة العجوز فرض تعريفات انتقامية على الواردات الأمريكية.
بالإضافة إلى المعركة الاقتصادية الآخرى بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بخصوص قرار ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وطلبه من دول الاتحاد إعادة العقوبات الاقتصادية ضد الجمهورية الإسلامية، وهو ما رفضته القارة العجوز مقررة أن تظل تدافع عن مصالحها الاقتصادية والتجارية في طهران بصرف النظر عن تحركات وقرارات واشنطن، فيما أبدى مسئولو المكسيك والبرازيل استياءهم، من فرض قيود على صادراتهما للسوق الأمريكية، وإلغاء الإعفاء الذي كانت تتمتع به بلادهم مع كوريا الجنوبية بخصوص تصدير سلع للولايات المتحدة.
مصالح أوروبا مع الصين أكبر
وبما أن الدول جميعها تبحث عن مصالحها، فإن الاتحاد الأوروبي كما قرر أن يبحث عن مصالحه مع إيران، فقد قرر أيضًا أن يسلك نفس المسلك مع الصين، حيث تؤكد الأرقام أن حجم التجارة بين الصين و16 من دول وسط وشرق أوروبا فقط بلغ 68 مليار دولار خلال 2017، وفقًا لوكالة "شينخوا" الصينية، وذلك بزيادة 15.9%، وأن صادرات الصين لتلك الدول بلغت 13.% بما قيمته 49.5 مليار دولار أمريكي بزيادة 24%، كما استثمرت الشركات الصينية حتى الآن أكثر من 9 مليارات دولار في تلك الدول في مجالات تشمل المعدات والاتصالات والطاقة الجديدة، فيما تجاوز حجم استثمارات دول وسط وشرق أوروبا في الصين ما قيمته 1.4 مليار دولار أمريكي.
التخبط سمة إدارة ترامب
ما يحدث يؤكد أن "التخبط" هو الحالة التي يعيشها دونالد ترامب، لأن كل قرار يتخذه يعيد النظر بشأنه أو يلغيه، بعد أن يكتشف أنّ ما أصدره كان قرارًا عشوائيًا، ولعل أقرب قرار كان إلغاءه القمة المشتركة مع كيم جونج أون زعيم كوريا الشمالية، ثم التراجع عن القرار وسعيه لعقد القمة في اليوم التالي، والقرار الأبرز الأخر هو اتفاق التجارة عبر المحيط الهادئ أو ما يُعرف بالـ "TPP" وهو اتفاق تجاري بين 12 دولة تمتلك 40٪ من الاقتصاد العالمي، فبعد أنّ كان شعار ترامب الانتخابي هو الخروج من هذه الاتفاقية لما تُسببه من أضرار لأمريكا - حسب رأيه - عاد وأصدر قرارًا مغايرًا يطلب فيه إعادة دراسة القرار الأول وتقييمه، وذلك لما خلّفه من ضررٍ على الاقتصاد الأمريكي.
نظرة دول "المحيط الهادئ" لمسألة عودة أمريكا
الطريف في الأمر أن دول اتفاق التجارة عبر المحيط الهادئ، لا ترغب في عودة واشنطن للانضمام لتلك المجموعة ذات الثقل الاقتصادي، حيث أعلنت الحكومة اليابانية على لسان الناطق باسمها يوشيهيدي سوجا أن إعادة التفاوض حول اتفاق الشراكة "غاية في الصعوبة"، مُشيراً إلى أنّ هذا اتفاق يشبه منحوتة من الزجاج، وسيكون في غاية الصعوبة إعادة التفاوض حول بعض الأجزاء، لكنه أردف: "يسرنا أن نرحب بمبادرة الرئيس الأمريكي إن كانت تعني أنه يعترف بنطاق وأهمية الاتفاقية"، مُطالباً بمزيد من التوضيح حول النوايا الأمريكية.
أثار جريمة انسحاب أمريكا من الاتفاقية
تسبب انسحاب ترامب من الاتفاق فور وصوله لسدة الحكم نهاية عام 2016، في انفراط عقد دول الاتفاقية التي عانت للم الشمل مرة آخرى، وظلت في محاولات نجحت خلال مارس 2018 في إعادة تجميع نفسها وتوقيع اتفاقية إنعاش التجارة بينها تحت اسم جديد هو: "الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ"، حيث وقع وزراء الخارجية أو التجارة في أستراليا وبروناي وكندا وتشيلي واليابان وماليزيا والمكسيك ونيوزيلندا وبيرو وسنغافورة وفيتنام الاتفاق الذي أعادوا من خلاله التجارة فيما بينهم.
ترامب يقامر بمنصبه
محللون كشفوا في سلسلة مقالات نشرت بوسائل الإعلام الأمريكية، أن الرئيس ترامب قرر أن يقامر بمنصبه كرئيس للقطب الأوحد في العالم، والدخول في حرب اقتصادية مع الصين، وأن تلك المفاوضات الدائرة حاليًا مجرد مسكنات للحصول على هدنة وإجبار هذا البلد الذي يُعدّ ثاني أكبر اقتصاد في العالم على الانسحاب والخضوع لقرارات أمريكا، ولفتت تلك الدراسات أيضاً إلى أن الصين لا تنوي القيام بإجراءات من شأنها أن تقلّل توتراتها مع أمريكا وذلك لاعتقادها بأنها خصم لا يُستهان به في الساحة الاقتصادية، وذلك رغم التصريحات الهادئة التي تخرج من بكين وقبولها مبدأ التفاوض.
أدوات الصين لإلحاق الألم بأمريكا
بالإضافة إلى ذلك، تمتلك الصين الكثير من الأدوات التي تمكّنها من تحويل تلك الأضرار القليلة إلى ألم مرير لأمريكا وبالتالي، حيث يمكنها بيع السندات الوطنية الأمريكية التي يشتريها الصينيون وهذا الأمر سيشكل خسارة كبيرة لأمريكا، فضلا عن خسارة جزء كبير من عائدات شركاتها العاملة في الصين والتي حددها الخبراء تقريبًا بـ1.4 مليار دولار.
كما قد صدرت تصريحات نارية من قبل بن ساس السيناتور الجمهوري عن ولاية "نبراسكا" الأمريكية، وهو يعتبر واحدًا من أشد المنتقدين لسياسة ترامب الاقتصادية ضد الصين، قائلاً: "لحسن الحظ، لقد نثر الرئيس ترامب الغبار فقط وإذا كان ينوي الاستمرار في هذا الأمر فإنه بذلك سيكون أحمق، صحيح أن الصين قد ارتكبت الكثير من الأخطاء في الأعوام الماضية، ولكن الرئيس ترامب ليس لديه في الوقت الحالي أي خطط حقيقية للفوز في مواجهته هذه وسياسته هذه ستهدد وستقضي على الزراعة الأمريكية، تعالوا نواجه الصين ولكن يجب أن يكون لدينا خطة واضحة لمعاقبة الصين، لا معاقبة أنفسنا، وسياسة ترامب هذه تُعدّ من أحمق الطرق للقيام بهذا الأمر".
خسارة الحرب التجارية أو دخول اتفاقية المحيط الهادئ تثير غضب عمالي داخلي
واللافت للنظر أن الرئيس ترامب واقع بين أمرين كلاهما مر، فإن خسر الحرب التجارية ورضخ لشروط التجارة العالمية بضرورة فتح أسواق بلاده أمام الغزو السلعي الصيني، أو حتى العودة لاتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ، سيكسبه غضب شريحة العمال بولايات أوهايو وميتشيجان وويسكونسن وبنسلفانيا التي أيدته خلال حملته الانتخابية ورجحت كفته أمام هيلاري كلينتون بالانتخابات الرئاسية.
حيث يكون بذلك ترامب قد تخلى عن حديثه المعارض للتجارة الحرة وتعهداته بوقف تدفق السلع المستوردة من الصين والمكسيك، وهو ما كان قد أكسبه تأييد ضخم بين العمال بالولايات سالفة الذكر التي تُمثل القلب الصناعي للولايات المتحدة، وهو ما ترجمته تصريحات ريتشارد ترومكا رئيس النقابة المركزية العمالية الأمريكية: "إنه تم إعلان وفاة اتفاق الشراكة مع ترامب لأنه كان فاشلاً بالنسبة للعمال الأمريكان ولا يجب إنعاشه، ما من وسيلة لنفخ الحياة فيه من دون خيانة الشعب العامل".