مشاركة من الأستاذ الكريم فؤاد متاش مقاله السردي مع يوميات أوروسيا, حيث يتكلم عن الشعور بالوطن, و أختلاف المجتمع عنه في تعريف الوطن, و خلق معاني جديدة له, ربما لا تناسب الوطن, و ربما تساعد في تفكيكه.
لستُ أدري ما الذي يريدُه الناسُ مني !
لماذا يُلاحقونني بنظراتِهم الجارحة ؟!
إنهم يحسَبونني غريبَ الأطوار حِيناً وحيناً يحسبونني مجنوناً..
وكلُّ ذلك لأنني لستُ خاضعاً لعاداتِهم وتقاليدِهم ولا أجلسُ في مجالسِهم كثيراً .. وكيف أخضعُ لعاداتِهم وتقاليدِهم وهي تدعو إلى الخضوعِ والاستسلامِ والجمود ؟! وكيف أحضرُ مجالسَهم وهم لا يتحدثون إلا عن الثروةِ وكيفيةِ الحصولِ عليها وعن الجاهِ وكيفيةِ الحصول عليه ؟!
ويأتي الجاهُ حسب زعمِهم بالتقربِ إلى ذوي المناصبِ العاليةِ والثروةِ الطائلة . وكيف أجلسُ معهم وهم لا يتحدثون إلا عن القصورِ الفخمةِ والغُرفِ الفارهةِ المُجهَّزةِ بأحدثِ وسائلِ التكنولوجيا الحديثة وعن أحدثِ السياراتِ المجلوبةِ من أوروبا وأمريكا وعن ألوانِها البَرّاقةِ وعن ثمنِها الباهض الذي لا يمتلكُه إلا القِلّةُ القليلةُ من الناس؟!
ذلك الثمنُ الذي لو أُنفِق على الفقراءِ لأطعم وكسا الآلافَ منهم. جالستُ الناسَ فلم أسمعهم يتحدثون إلا عن الطوائفِ والأحزابِ التي تتناحرُ فيما بينها. جالستُ الناسَ فإذا هم ذئابٌ في مجالسِهم كلٌّ يَعوي في وجهِ الآخر وقد برزت مخالبُهم ولمعت أنيابُهم . نظرتُ إلى مُجتمعِنا فوجدتُ الناسَ قد تقاربوا أجساداً وتباعدوا قلوباً. رأيتُ كلاً منهم يبسُط إحدى يديه مُصافحاً ويدُه الأخرى تُخبِّئُ خلف ظهرِه خِنجراً مسموماً يوشِكُ أن يطعنَ به الآخر . كلُّ حزبٍ يدَّعي لنفسِه الحقَّ في امتلاكِ كلِ شيءٍ دون الآخرين وكلُّ جماعةٍ تدَّعي أنها ظلُّ اللهِ في الأرض وأنّ كلَ ما سواها باطل واللهُ بريءٌ منهم ومما يعملون . كلُّ طائفةٍ تُشهِرُ أسلحتَها ضدَّ الآخرين ليكونَ العرشُ من نصيـبِها مُحـاولةً طَيَّ خيراتِ الأرضِ بيدِها الطامعة. وهكذا انزوت كلُّ طائفةٍ في زاويةٍ بعيدةٍ عن زوايا الآخرين فصار الناسُ وحوشاً يقتلُ بعضُها بعضاً حين تكونُ الفرصةُ مُواتيةً لذلك . وهكذا انفصلت كلُّ جماعةٍ عن الأخرى بل انفصل كلُّ فردٍ عن الآخرين بل انفصل كلُّ فردٍ عن نفسِه فصار كأنَّ في أعماقِه طوائفَ عِدّة . تأمّلتُ المجتمعَ فلم أرَ إلا وجوهاً مُختفيةً خلف الأقنعةِ الزائفةِ التي تحجُبُ الحقيقةَ عن العيونِ وكــلٌّ منهم يبتسمُ بخُبثٍ ظناً منه أنه الوحيدُ الذي يُخادع . لقد رآني الناسُ غريباً لأنني كما يزعمون لا أُشارِكُ في بناءِ الوطن.. عجباً لهؤلاء الناس !
يهدمون الوطنَ حَجَراً حَجَراً ويدَّعُون أنهم يعملون لبنائِه.. إنهم كأسدٍ ينهشُ لحمَ فريستِه ويدّعي أنه يُعالِجُها . حَسِبني الناسُ غريبَ الأطوارِ لأنني أتحدثُ عن سكينةِ الليل وجمالِ القمر وسطوعِ الشمس وحديثِ النجوم وغناءِ الطيور وارتفاعِ الجبال وبياضِ الثلج وروعةِ الندى وسَعَةِ السماءِ وسِحرِ البحر ِ.
نعم .. لقد تحدّثتُ عن ذلك في حينِ كان عليَّ أن أتحدّثَ كما يتحدثون عن ارتفاعِ القصور ورنينِ الدنانير وكان عليَّ أن أسعى لأملأَ خِزانةً من خزائنِ البنكِ مالاً وأن أتَّخِذَ لي حظيرةً من السياراتِ المختلفة . دعاني الناسُ مجنوناً لأنني رفضتُ عاداتِهم وتقاليدَهم وما كنتُ لِأَرفضَها لولا أنها قوانينُ جاهـلةٌ - ولا عجب - فوَاضِعُوها هم جهلاءُ الأمةِ وحَمقاها . دعاني الناسُ مجنوناً لأنني سلكتُ طريقاً غيرَ التي سلكوا مع أنني وأنا أسيرُ وحيداً أدعو لهم بالخير وأرقُبُهم من الجانبِ الآخرِ بعينِ الحبِ والعطف . أردتُ أن أشاركَ الناسَ أفراحَهم فلم أجدهم يفرحون إلا عندما تلمسُ أيديهمُ الدنانيرَ الذهبية ..
وأردتُ أن أشاركَهم أحزانَهم فلم أجدهم يحزنون إلا لعدمِ استطاعتِهم الحصولَ على الدنانيرِ الذهبية . أردتُ أن أعيشَ بعيداً عن حياةِ المدينةِ فأويتُ إلى جبلٍ فراح الناسُ يلومونني لابتعادي عنهم وحين نادَوني نزلتُ من الجبلِ مُنحدراً إليهم وأنا أقولُ في نفسي " ربما فهمني الناس " وحين وصلتُ إليهم ناولوني بندقيةً وقالوا لي " اِختَر لك عدواً تحاربُه " فقلتُ لهم " إنه ليس لي أعداء " فازدادوا بُغضاً لي زاعمين أنني قد خالفتُ قوانينَهم. ماذا يريد الناسُ مني ؟! إنني لا أكرهُهم ولكنني أكرهُ ما يتهافتون عليه من حُطامِ الدنيا . أمّا أنا فَكِسرةٌ من الخبزِ تُشبِعُني وكوبٌ من الماءِ يُرويني. هل أخطأتُ عندما قلتُ للناس : " تعالوا نجعلِ الأرضَ مِحراباً نتلو فيه آياتِ الحبِ نابعةً من قلبِ الإنسانية ؟! " دعوني وشأني فقد اتخذتُ من الطبيعةِ موطِناً هو أنقى من موطِنِكم البشري . أنتم راضُون بحياتِكم الملأى بالصراع وأنا راضٍ بحياتي الملأى بالسكينة . لقد تركتُ لكم موطنَكم فاتركوا لي موطني