وقف الخطيبُ على المنبر وبعد الديباجةِ المعروفةِ التي بدأ بها مضى في خُطبتِه صارخاً مُشدودَ الأعصاب مُتوتِّراً فتحدث عن تقوى الله دون أن يُبيّن للناس ما هي التقوى لأنه هو نفسَه لا يعرف معنى التقوى .. تحدث الخطيبُ عن الصلاةِ وعن طاعةِ الله وعن المعاصي التي نفعلُها وتحدث عن تلك الأمور التي يتحدثُ عنها الخطباءُ منذ سنين طويلة .. كان الناسُ يُحملِقون في الخطيب حتى انتهى من الخُطبةِ وصلّى على النبي وبدأ الدعاءَ فرفع الناسُ أيديهم قليلاً وأغمضوا عيونَهم قائلين بعد كلِ دعوةٍ " آمين " .. دَعا الخطيبُ اللهَ تعالى أن يَحُلَّ كلَّ مشاكلِنا .. قال
" اللهم انصرِ الحقَّ وأهلَه " وكأنّ اللهَ لا ينصرُ الحق .. وقال
" اللهم اخذُلِ الباطلَ وأهلَه" وكأن اللهَ لا يخذُلُ الباطل .. ودعا للفقراء فقال مخاطباً اللهَ " ولا فقيراً إلا أغنيتَه " وكأن اللهَ لا يريد أن يُغنِيَ الفقراء .. لم يتحدث خطيبُنا المُوقَّرُ عن الفسادِ الذي سببُه الناسُ ولم يتحدث عن الظلمِ الذي ملأ المؤسساتِ كلَّها حتى صار المالُ في أيدي قلةٍ من اللصوصِ الذين يُديرون الأمور .. ولم يتحدث عن فسادِ العامةِ الذين تركوا الخاصةَ يَسرقون ويُفسدون فلم يقفوا في وجوهِهِم ولم يأخذوا على أيديهم ولم يتحدث عن فسادِ هؤلاء الفقراءِ الذين يسرق بعضُهم بعضاً.. ودعا الخطيبُ للعُزّابِ فقال مخاطباً اللهَ تعالى
" ولا عازباً إلا زوّجتَه " وكأن اللهَ يمنعُ العُزّابَ من الزواج .. لم يتحدثِ الخطيبُ عن وجوبِ منحِ العُزّابِ فُرصَ عملٍ ليعملوا فيستطيعوا الزواج ولم يتحدث عن غلاءِ المهورِ وتكاليفِ الزواج .. ودعا الخطيبُ اللهَ أن يُولِّيَ علينا خِيارَنا وألّا يُولِّيَ علينا شِرارَنا.. وهل اللهُ سبحانه هو الذي يُولِّيَ علينا شِرارَنا ؟! وهل اللهُ سبحانه يمنعُ أن نُولِّيَ خِيارَنا ؟! .. ألسنا نحن الذين نُولي هؤلاء أو هؤلاء؟! .. وبعد دعواتٍ طويلةٍ عريضةٍ سأل الخطيبُ اللهَ أن يُعيدَ إلينا القدس وسأله أن ينصُرَنا على مَن عادانا وأن يُهلِكَ أعداءَنا ويسحقَهم ويُبيدَهم وأن يجعلَ الأرضَ كلَّها لنا .. نعم .. يجبُ على اللهِ أن يفعلَ ذلك .. ألسنا نؤدي الصلاة خمسَ مراتٍ في اليومِ والليلة ؟!
من الذي يؤدي الصلاةَ سوانا ؟!
دولُ الغربِ كافرةٌ لا تؤدي الصلاة ونحن الذين نُؤدّيها.. ولولا صلاتُنا هذه لما بقيت السماواتُ والأرضُ في مكانِهما لهذا فاللهُ بحاجةٍ إلينا .. هذا هو لسانُ حالِنا وإن لم نقله بألسنتِنا..اللهم إني أبرأ إليك من هذا .. إننا لا نزرعُ ولا نصنعُ ولا نُنظِّفُ شوارعَنا ولا نهتمُّ بِمُدُنِنا ولا بالتعليم ولا بشيءٍ ولا نُقيمُ العدلَ ولا نحكُمُ بميزانِ اللهِ ولا نريدُ التغييرَ ولا نُفـكِّرُ فيه ومع هذا ندعو اللهَ أن يُعيدَ القدسَ إلينا وأن ينصُرَنا على من عادانا.. إننا نعتقدُ اعتقاداً جازماً أننا عبادُه الصالحون وأحبّاؤُه وخاصتُه فنحن نصلي كلَّ يوم فماذا تبقّى بعد ذلك ؟!
يا لها من وقاحةٍ على المنابر !
لم يتبقَّ إلا أن ندعوَ اللهَ أن يُرسلَ ملائكةً ليُنظِّفواَ شوارعَنا .
فلنسأل أنفسَنا " لماذا لم يستجِبِ اللهُ لنا هذه الدعواتِ كلَّ هذه السنين ؟! " .. ألا يسمعُ اللهُ دعاءَنا ؟! .. حاشاه.. إنه السميعُ العليم .. ألا يريدُ اللهُ أن يُغيِّرَ حالنَا ؟! .. حاشاه.. هو لا يريد لعبادِه إلا الخير .. ما المشكلةُ إذاً ؟!
المشكلةُ هي أننا لم نغيِّر ما بأنفسِنا ليتغيّرَ حالُنا " إن اللهَ لا يُغيّرُ ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسِهم " .. إنه قانونٌ لا يتبدلُ ولا يتغير .. لو ظللنا ندعو اللهَ ألفَ سنةٍ فلن يتغيرَ شيءٌ حتى نُغيِّرَ ما بأنفسِنا فيتغيرَ سلوكُنا.. وهذا لن يكونَ إلا على أيدي المؤمنين القلائلِ الذين فهموا الدين وأدركوا أن الصلاةَ أكبرُ بكثيرٍ من أن تكونَ حركاتٍ جوفاءَ لا معنى لها .