بقلم : أحمد عبده طرابيك
في الحادي عشر من فبراير هذا العام 2019 ، يكون قد مر أربعون عاماً علي الثورة الإسلامية في إيران ، تلك الثورة التي شكَّلت حدثاً تاريخياً تخطى بآثاره ونتائجه حدود الجغرافيا الإيرانية ، فقد أحدثت الثورة تغيراً كبيراً ليس في الداخل الإيراني وحسب ، بل تجاوز ذلك إلي الجغرافيا السياسية علي الساحتين الإقليمية والدولية علي حد سواء . لقد أحدثت الثورة تغييراً جذرياً في بنية النظام الإيراني ، فقد منحت الثورة إيران هوية مختلفة تماماً لما كانت عليه في عهد الشاه ، الذي كان يمثل نظاماً علمانياً موالياً للغرب ، وجاءت الثورة لتعيد بناء مؤسسات الدولة وفق نموذج جديد قدمت به إيران من خلاله نموذجاً جديداً للحكم وإدارة الدولة ، نظام سياسي يسمح بتداول السلطة بقدر كبير وإن لم يكن بشكل غير كامل ، وإقامة مؤسسات نيابية " مجلس الشوري الإسلامي " وقضائية وإعلامية قوية إلي حد ما
. شكلت الثورة الإسلامية في إيران صدمة للكثير من القوي الإقليمية والدولية علي حد سواء ، أدت تلك الصدمة إلي الدخول في صدام حروب عسكرية واقتصادية بشكل مباشر بغية وأد الثورة في مهدها ، فالقوي الدولية في الغرب لم يرق لها قيام نظام إسلامي علي أنقاض نظام كان يمثل لها الشرطي المطيع الملتزم بتعليمات قادته ، كما خشيت دول الجيران وخاصة علي الضفة الأخري من الخليج أن تكون الثورة حافزاً وعاملاً لإثارة شعوبها ضد أنظمتها الحاكمة ، ومن ثم " تصدير الثورة " إلي منطقة راكدة مستقرة . دفعت القوي الغربية والدول الخليجية العراق إلي الدخول في حرب شرسة بعيد قيام الثورة الإيرانية ، وسعت القوي الغربية وخاصة الولايات المتحدة إلي دفع الطرفين العراقي والإيراني علي الاستمرار في الحرب لإنهاك الطرفين واسقاط الثورة في إيران ، وتدمير البني التحتية في البلدين ، فانتهكت القوانين الدولية بتزويد الطرفين سراً بالأسلحة فيما عرفت بفضيحة " إيران كونترا " ، ففي الوقت الذي وقفت فيه دول الخليج العربية إلي جانب العراق ، لجأت إيران إلي الصين لتزويدها بالسلاح للاستمرار في الحرب التي استمرت لثماني سنوات أنهكت الدولتين بشكل تام . لم تفلح حرب الثماني سنوات في إجهاض الثورة الإيرانية ، فاتجهت الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة إلي اتباع استراتيجية جديدة ضد إيران تمثلت في فرض عقوبات اقتصادية شديد القسوة عليها ، الأمر الذي جعل إيران تتجه إلي تغيير استراتيجيتها أيضاً ، فقررت الاعتماد علي الذات ، من خلال تنمية مواردها الطبيعية والبشرية لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتلبية احتياجات شعبها . كان قطاع الزراعة المستفيد الأول من العقوبات الاقتصادية علي إيران ، حيث اتجهت إلي تحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب والخضروات والفاكهة ، كما عملت علي تطوير المحاصل الاقتصادية فتصدرت المراكز الاولي عالمياً في انتاج الزعفران والفستق والجوز والتمور والتفاح والحمضيات والخوخ والمشمش والبطيخ ، والزهور والأعشاب الطبية وغيرها ، إلي جانب المحاصيل الغذائية التقليدية كالقمح والأرز . تطورت استراتيجية إيران المتمثلة في مواجهة العقوبات الاقتصادية ، إلي استراتيجية أكثر طموحاً ، فوجهت جزء كبير من قدراتها إلي قطاع الصناعة ، بغية انتاج صناعات ذات تقنيات عالية خاصة بها بعد أن تسببت العقوبات الاقتصادية في منع وصول التقنيات الغربية إليها ، وشملت تلك التقنيات قطاعات عديدة ، جاء في مقدمتها قطاع الصناعات الحربية والأسلحة ، واستطاعت إيران بناء ترسانة حربية متطورة ، والتخصص في انتاج الطائرات بدون طيار والمروحيات ، وبناء الفرقاطات والغواصات ، وتصنيع الدبابات والصوارخ ، المتوسطة والطويلة المدي ، الأمر الذي جعلها تتطلع إلي بطموحاتها إلي مجال الأقمار الصناعية والفضاء ، كما طورت قطاع الصناعات الهندسية والحاسبات والبرمجيات .
تأثر الاقصاد الايراني بشكل كبير طوال العقود الأربعة الماضية ، وكان ذلك أمر طبيعي وحتمي لأي دولة خاضت حرباً ضارية علي مدار ثماني سنوات " 1980 - 1988 " مع العراق في بداية مرحلة تحول جديد ، إلي جانب عقوبات اقتصادية قاسية معظم سنوات الثورة الأربعين ، ولكن رغم كل ذلك استطاع الاقتصاد الايراني أن يمتص الكثير من تلك الصدمات ، وفشل في امتصاص البعض الآخر ، حين انخفضت القوة الشرائية للريال الإيراني بشكل كبير ، وتراجع قيمته أمام العملات الأجنبية وخاصة الدولار واليورو ، ولكن لم تكن تلك الأعراض قاصرة علي إيران وحدها ، فقد تعرضت اقتصاديات دول المنطقة إلي نفس تلك الأعراض ، نتيجة للسياسات والصراعات التجارية بين الولايات المتحدة والصين ، وعدم استقرار سوق النفط العالمي ، ولكن استطاعت إيران احتواء جزء كبيرة من هذه الأزمة باتباع سياسات اقتصادية أكثر مرونة مع الشركاء التجاريين لها كالصين وتركيا وروسيا ، خاصة أن السوق الإيرانية تعتمد علي كثير من السلع والمنتجات الأساسية المحلية
. أدى صمود النظام الإيراني الذي أنتجته الثورة الإسلامية ، إلي صياغة سياسة خارجية لإيران على الصعيدين الإقليمي والدولي ، وأصبح لها تواجد كبير في المنطقة ، ومفاوض رئيسي مع الأطراف الإقليمية والقوي الدولية في كثير من القضايا والملفات أهمها ملف إيران النووي ، والوضع في العراق بعد انهاء الاحتلال الأمريكي له ، والأزمة السورية والملف اليمني ، وصولاً إلي الصراع العربي الإسرائيلي ، سواء من خلال حزب الله ، أو من خلال مساندتها لحركات المقاومة في الأراضي الفلسطينية المحتلة وخاصة حركتي حماس والجهاد الإسلامي ، فشكلت مع تلك الأطراف إلي جانب سورية ما يطلق عليه " محور المقاومة " ، الذي عزز تواجده علي الساحة الإقليمية بفضل صموده وتشكيل شوكة قوية في ظهر الاحتلال الاسرائيلي فأصبحت المقاومة المسلحة ورقة يحسب لها الجميع قدرها ومكانتها في أي تسوية .
كما أن تدخلها في الأزمة السورية بطلب من الحكومة السورية جعلها علي خط التماس مع إسرائيل سواء كان ذلك بشكل مباشر كما في هضبة الجولان المحتلة ، أو غير مباشر عن طريق حزب الله . تلعب إيران دوراً هاماً في أفغانستان بحكم الحدود المشتركة ووجود أعداد كبيرة من اللاجئين الأفغان داخل أراضيها ، وعلاقاتها القوية مع بعض أطراف الصراع جعلها طرفاً أساسياً في أي تسوية في ذلك البلد الذي لم يشهد أي استقرار منذ الإطاحة بحكومة طالبان ، الأمر الذي أصبح يشكل تهديداً وقلقاً كبيراً للقوي الدولية ، سواء من أعداد اللاجئين الأفغان التي تطلب الهجرة إلي أوروبا ، أو من حيث أن أفغانستان أصبحت من أكثر المناطق تصديراً للإسلاميين المتشددين
. استطاعت إيران بعد الثورة أن تنتهج سياسة خارجية مستقلة بعيداً عن أي إملاءات أوضغوط ، بعدما كانت مجرد ورقة تحركها الولايات المتحدة والقوي الغربية ، فقد رأت أن مكانتها بين القوي الإقليمية تتحدد وفق ما تمتلكه من قوة عسكرية ، وهذا ما سعت إليه وعملت علي تحقيقه فأصبحت منتجة لأسلحتها المختلفة ، وسعت إلي تطوير تلك الأسلحة حتي وصلت إلي مرحلة تصنيع الصواريخ الباليستية ، وغيرها من الأسلحة النوعية ، وعملت علي تزويد حلفاءها بتلك الأسلحة أو بأسرار تصنيعها في بعض الأحيان . تمدد النفوذ الإيراني الذي يراه البعض أنه تدخل في شئون الدول الأخري ، في حين تبرره بأنه طموح مشروع لا يمس سيادة الآخرين ، علي أساس أن المنطقة تزايدت فيها التدخلات الخارجية خاصة منذ احتلال العراق ، وأن هذه التدخلات للقوي الغربية يهدد أمنها ومصالحها ، ومن ثم فقد أصحبت لاعباً أساسياً في كثير من الملفات الإقليمية ، وأصبحت إيران شريكاً للدول الغربية في تلك الملفات ، وقد اتضح ذلك في مفاوضاتها مع الدول الغربية حول ملفها النووي ، وحرص الدول الأوروبية علي استمرار التعاون مع إيران حتي بعد انسحاب الولايات المتحدة من اتفاق إيران النووي
. استطاعت إيران أن تنسج تحالفات قوية مع القوي الدولية الكبري المنافسة للولايات المتحدة والدول الغربية وخاصة روسيا والصين ، ومن ثم استطاعت تبادل المصالح معهما سواء بالنسبة لكسر قيود العقوبات الاقتصادية الأمريكية ، حيث تمكنت من تنمية العلاقات التجارية مع الصين أكبر المستوردين للنفط الإيراني ، أو بالنسبة لملفات المنطقة الملتهبة خاصة تحالفها مع روسيا في الأزمة السورية ، والتي حققت فيها انتصاراً نوعياً . بعد أربعة عقود علي الثورة الإسلامية ، استطاعت إيران أن تضع أسس قوية للبنية الاقتصادية ، خاصة في قطاعات هامة كالزراعة والصناعة والسياحة والتعدين ، انعكست بشكل كبير علي الحياة الاجتماعية وبشكل خاص في قطاعي الصحة والتعليم . وقد يكون جيل الثورة الإسلامية لم يستطع جني ثمار ثورته ، وهذا حال الأجيال في الدول التي شهدت ثورات ، ولكن الخطوات التي قطعتها الجمهورية الإسلامية خلال العقود الأربع التي هي عمر الثورة الإسلامية وفرت بنية أساسية يمكن من خلالها أن تحقق للأجيال القادمة مستوي معيشي أفضل وأن تجني ثمار الثورة في ظل دولة أصحبت أحد أهم القوي الإقليمية الفاعلة في المنطقة ، بل ويتخطي دورها في كثير من القضايا الدولية إلي أفريقيا وأمريكا اللاتينية .