نشر رئيس كازاخستان، قاسم-جومارت توقايف، مقالة في 14 سبتمبر 2023، طرح فيها رؤيته حول الأمن والسلام والاستقرار في العالم، وضرورة بناء نظام جديد للأمن الدولي، بمشاركة قادة الأديان في العالم، الذين يتمتعون بدور مهم ومؤثر في الحياة الروحية لدي الشعوب كافة.
في البداية شخّص الرئيس توقايف الوضع الأمني الهش في العالم، والذي لم يشهد له مثيل منذ الحرب العالمية الثانية وإنشاء الأمم المتحدة، حيث يشهد العالم تصاعد في حركة التوترات الدولية وتآكل النظام العالمي القائم، مع تزايد الانقسامات في العالم بشكل لافت لم يعهدها النظام الدولي منذ الحرب الباردة. ونتيجة لذلك، يواجه كوكب الأرض تهديدات خطيرة، حيث التنافس حول سباق تسلح عالمي جديد، والتهديد باستخدام الأسلحة النووية، وانتشار الحروب بجميع أشكالها، بما في ذلك الحروب الساخنة والهجينة والسيبرانية والتجارية. وفي هذا الجو من التوتر والاضطرابات الجيوسياسية المتزايدة، من الأهمية بمكان العمل على تطوير أساليب جديدة لتعزيز الحوار والثقة بين الثقافات والحضارات.
تشكل الدبلوماسية عنصراً أساسياً في تيسير علاقات التعاون بين الدول والشعوب. ولقد قامت كازاخستان بدعم الحلول الدبلوماسية للنزاعات في كثير من مناطق العالم الملتهبة، حيث جمعت أطراف الصراع علي طاولة المفاوضات وفق أسس ميثاق الأمم المتحدة. كما عملت علي تعزيز أسس المبادئ التي تهدف إلى تحقيق السلام الدائم والأمن والتنمية المستدامة في جميع أنحاء العالم.
على الرغم من الجهود المبذولة، إلا أن الصراعات لا تزال مستعرة في العديد من مناطق العالم. ومن أجل بناء نظام جديد للأمن الدولي، يحتاج العالم إلى حركة عالمية جديدة من أجل السلام. وأعتقد أن دور زعماء الأديان لا غنى عنه. خاصة وأن ما يقرب من 85% من سكان العالم ينتمون إلى دين ما، الأمر الذي يجعل الدين عاملاً مهماً في حياة البشر. ولذلك فإن زعماء الأديان لهم تأثير كبير في العالم. علاوة على ذلك، فإن القيمة المقدسة للحياة الإنسانية، والدعم المتبادل، ونبذ الصراع والعداء المدمر، هي مجموعة من المبادئ المشتركة بين جميع الأديان. ونتيجة لذلك، فإن هذه المبادئ يمكن أن تشكل أساساً متيناً لنظام عالمي جديد.
تساءل الرئيس توقايف، عن كيفية مساهمة زعماء الأديان في العمل من أجل السلام العالمي؟ وعن كيفية تطبيق ذلك بشكل عملي؟
أولاً: يمكن لزعماء الأديان أن يساهموا في تضميد جراح الكراهية بعد الصراعات الطويلة. حيث تعد سوريا مثال حي على ذلك، فبعد انتهاء الحرب الأهلية وتوقف الأعمال العدائية والتي ساهمت كازاخستان بجهد فيها من خلال محادثات السلام في عملية أستانا، والتي عملت منذ عام 2017 في تقريب وجهات النظر بين ممثلي الحكومة السورية والمعارضة، بالتعاون مع كل من تركيا وإيران وروسيا. حيث انتهت المرحلة الساخنة من الصراع، إلا أنه تزال الانقسامات قائمة داخل البلاد. ويمكن لقادة الأديان بما يمتلكونه من قوة روحية أن يلعبوا دوراً مهماً في شفاء المجتمع السوري من خلال هذه القوة الروحية.
ثانياً: الطبيعة البشرية متناقضة. حيث توجد دائماً استفزازات وكراهية بين بعض البشر. وتعتبر العمليات الأخيرة لحرق القرآن الكريم في عدد من دول شمال أوروبا، اتجاهات سلبية تقوض ثقافة التسامح والاحترام المتبادل والتعايش السلمي. وفي هذا الصدد، فإن التواصل بين زعماء الأديان لمنع مثل هذه الحالات والاتجاهات أمر بالغ الأهمية.
ثالثاً: تعمل التقنيات الحديثة على تغيير جميع مجالات الحياة البشرية بشكل جذري. وهذه التغييرات في الغالب نحو الأفضل، بما في ذلك تحسين الرعاية الصحية والمعلومات غير المحدودة عبر الإنترنت وسهولة الاتصال والتواصل والسفر. وفي الوقت نفسه، نلاحظ كيف يتم تجزئة المجتمعات واستقطابها تحت تأثير التقنيات الرقمية. وفي الواقع الرقمي الجديد، ومن ثم بات من الضروري أيضاً تنمية القيم الروحية والمبادئ الأخلاقية. ويلعب الدين دور رئيسي في ذلك، حيث أن جميع الأديان تقوم على المثل الإنسانية، والاعتراف بالقيم العليا للحياة البشرية، والتطلع إلى السلام والإبداع.
وهذه المبادئ الأساسية يجب أن تتجسد ليس فقط في المجال الروحي، بل أيضاً في التنمية الاجتماعية والاقتصادية للدول والسياسة الدولية. فمن دون الاعتماد على المثل والأخلاق الإنسانية، فإن الثورة العلمية والتقنية السريعة يمكن أن تؤدي إلى ضلال البشرية. ونحن نشهد بالفعل مثل هذه المناقشات مع ظهور الذكاء الاصطناعي. وفي نهاية المطاف، فإن السلطة الأخلاقية وكلمة قادة الأديان هو أمر بالغ الأهمية اليوم. فقد استضافت كازاخستان على مدى عشرين عاماً مؤتمر زعماء الأديان الذي بشكل دوري كل ثلاث سنوات.
قبل أن يصبح رئيساً لكازاخستان في عام 2019، عمل توقايف رئيساً لأمانة مؤتمر زعماء الأديان العالمية والتقليدية. ولاحظ كيف عمل المؤتمر علي تعزيز قيم التسامح والاحترام المتبادل بدلاً من الكراهية والتطرف. وفي العام الماضي، عقدت كازاخستان المؤتمر السابع لزعماء الأديان. وقد شارك به وفود من 50 دولة، بما في ذلك ممثلو الإسلام والمسيحية واليهودية والشنتوية والبوذية والزرادشتية والهندوسية وأديان أخرى. وقد استقبل الرئيس توقايف بابا الفاتيكان البابا فرانسيس، وهي الزيارة الثانية التي يقوم بها رئيس الكنيسة الكاثوليكية إلى كازاخستان بعد الزيارة التي قام بها البابا يوحنا بولس الثاني في عام 2001.
وعلى مدى العقدين الماضيين، أصبح المؤتمر منصة للحوار بين الحضارات والثقافات على المستوى العالمي. وقد ساهمت كازاخستان بشكل كبير في إقامة مجتمع مستقر ومتناغم من سكان يتألفون من أكثر من 130 مجموعة عرقية، و18 طائفة دينية تعيش في سلام علي أرض كازاخستان. ومن خلال التزامها بالتسامح الديني وحقوق الإنسان، تضرب كازاخستان مثالاً للعالم، حيث تبرز أهمية الحوار بين الأديان في خلق مجتمع عالمي أكثر سلاماً ووئاماً.
وبينما لا يزال العالم غارقاً في حالة من عدم اليقين السياسي، فإن بناء جسر من التقارب بين الثقافات والحضارات مطلوب بشكل أكثر من أي وقت مضى. ويمكن لكازاخستان القيام بالعمل علي تسهيل الحوار العالمي بين الأديان والأمم، وذلك من خلال أعمال مؤتمر زعماء الأديان، وبالتالي المساهمة في التفاهم والاحترام المتبادل بين مختلف المجتمعات في العالم.
أحمد عبده طرابيك
باحث في شئون آسيا والعالم التركي