حضرت الأسبوع الماضى ندوة عقدها مركز الحوار للدراسات السياسية والاستراتيجية لعرض كتاب بعنوان "مأساة يناير" للكاتب الصحفى محمد سلامة، فى ذكرى مذبحة ينايرالأسود التى حدثت منذ 29 عامًا، وراح ضحيتها الآلاف من أبناء جمهورية أذربيجان الذين خرجوا مطالبين باستقلال بلادهم عن الاتحاد السوفييتى آنذاك.
استمعت لحديث الدكتور "إيميل رحيموف" القنصل والمستشار الإعلامى لجمهورية أذربيجان فى القاهرة عن الموضوع، حيث روى كيف أن القوات السوفييتية تعاملت بوحشية غير مسبوقة مع أبناء دولة حليفة ساعدتها فى حربها ضد الألمان بالحرب العالمية الثانية، واستمرت تدعم الاتحاد السوفييتى، الذى قامت قواته بارتكاب مذبحة مروعة ضد المتظاهرين السلميين الذين طالبوا باستقلال بلادهم عام 1991، وروى كيف جاء مشهد السير بالدبابات السوفييتية على شعب أذربيجان مفجعًا، وكيف جرى إطلاق الرصاص عشوائيًا على الجميع، حتى سيارات الإسعاف لم تنجُ من القصف السوفيتى، ما أدى إلى مقتل 133 مواطنًا من شباب ونساء وشيوخ وأطفال أذربيجان، حتى إنه كان من بين المشاهد المروعة العثور على امرأة مقتولة وفى جسدها 23 مقذوفًا ناريًا!
استطرد رحيموف فى الحديث، وقد بدا التأثر الشديد على وجهه، من أثر المعاناة التى تكبدها الأذربيجانيون فى الدفاع عن حقوقهم المشروعة فى الاستقلال، وتحدث عن خوفهم الشديد من ممارسة عباداتهم، حتى إن آباءهم وأجدادهم كانوا يتخفون عند أدائهم الصلاة كى لا يقعوا تحت طائلة المحتل السوفييتى.
تذكرت وأنا استمع لحديث رحيموف فيلمًا بعنوان "مملكة السماء" للمخرج ريدلى سكوت، الفيلم من إنتاج الولايات المتحدة الأمريكية ومدة عرضه 144 دقيقة، ومن تأليف كاتب السيناريو والروائى الأمريكى وليام موناهان، وهو من مواليد نوفمبر 1960.
تدور أحداث الفيلم حول الحداد "باليان" الذى أدى دوره الممثل البريطانى "أورلاندو بلوم"، حيث يقتل باليان شقيقه الكاهن الذى يحاول الاستيلاء على منزله، وكان باليان قد اكتشف أنه ابن للبارون "جودفرى" الذى لعب دوره الممثل الأيرلندى "ليام نيسون"، حيث عرض جودفرى على ابنه باليان أن يصحبه للقدس، وأخبره أنه يمتلك هناك أراض واسعة منذ احتلال الصليبين لفلسطين.
يلحق "باليان" الحداد بوالده "جودفرى" باحثًا عن التوبة فى أرض السيد المسيح، لكنه حين يصل إلى هناك لا يجد إلا الحرب والثروة الطائلة، ويتعجب من ذلك حيث يقارن بين معيشته الفقيرة فى بلاده وكيف أصبح فجأة من النبلاء والأثرياء فى بلاد الشرق التى احتلها أقرانه.
الفيلم يتناول الحروب التى قامت من أجل الثروات فى بلاد الشرق، وكيف "استغل" الأوربيون الدين المسيحى من أجل ذلك، ويصور كيف تعامل العرب بشهامة ونبل مع الصليبيين، وكيف دأب الصليبيون على الغدر بالعرب، حيث جاء مشهد الهجوم على قافلة الحجاج الشهير، وقتلهم ومعهم أخت صلاح الدين على يد "رينارد"، الذى لعب دوره ببراعة الممثل الأيرلندى بريندان جليسون، ليشعل ذلك الاعتداء الحرب بين صلاح الدين الذى قام بدوره الممثل السورى غسان مسعود، وبين ملك القدس المحتل بلدوين الرابع الذى قام بدوره الممثل الأمريكى إدوارد نورتن.
وعلى الرغم من وجود بعض الاختلافات التاريخية فى هذا الجزء، لا سيما مع ما جاء فى فيلم الناصر صلاح الدين للمخرج المصرى الراحل يوسف شاهين، يظل التشابه رغم ذلك واضحًا بين ما حدث وقتها واحتلال الصليبيين لفلسطين وللقدس، وبين ما جرى فى أذربيجان وباقى جمهوريات آسيا الوسطى واحتلال السوفييت لهم رغم اختلاف المحتل وذرائعه فى المنطقتين.
أعود إلى الندوة التى ذكر فيها رحيموف أيضًا أن بلاده شهدت الكثير من القمع، خلال أول 20 عامًا من الحكم السوفيتى من 1920 إلى 1940، حيث تم نفى 170 ألف مواطن إلى مناطق صحراوية فى سيبيريا، معظمهم من الأدباء والمثقفين وضباط الجيش ورجال الدين، عقابًا لهم على إظهار هويتهم الثقافية الأذربيجانية والدينية الإسلامية، وأنهم حافظوا بصعوبة على عاداتهم وتقاليدهم.
وأبدى دهشته من المجتمع الدولى الذى منح ميخائيل جورباتشوف آخر رئيس للاتحاد السوفيتى، جائزة نوبل للسلام، رغم أنه المتسبب الرئيسى فى مذبحة "باكو" يناير الأسود، مستنكرًا ازدواجية المعايير، رغم اعتراف "جورباتشوف" بخطئه فى إعلان حالة الطوارئ عام 1995 فى أذربيجان والسماح بالأحداث لأن تسير إلى هذا الشكل الدامى.
يثير كلام رحيموف التساؤلات حول حقيقة موقف المجتمع الدولى المشكوك فى مصداقيته تجاه الشرق، وضرورة التفكير فى وسيلة لعرض قضايا العالم العربى والإسلامى بشكل يضمن أن تصل الحقيقة إلى الرأى العام العالمى، وأظن أن السينما هى أفضل وسيلة لذلك، فالمتابع لحركة السينما الأمريكية، سوف يلاحظ إنتاج العديد من الأفلام التاريخية التى تتناول قصة الصراع بين الشرق والغرب من وجهة النظر الغربية، والعديد منها يرسخ مفهوم العداء للغرب، وهو أمر ملتبس ويحتاج إلى كثير من النقاش والبحث والإيضاح.
أعتقد أنه سيكون من المفيد إنتاج أفلام تاريخية عربية ووسط آسيوية أيضًا تتناول هذا الصراع، وأن تروى الجانب المسكوت عنه من انتهاكات الاستعمار الغربى لتلك المناطق، لعل هذا يكون هو الطريق الأمثل للسلام والتوقف عن الحروب فى العالم، تلك الحروب التى أنهكت البشرية ولازالت، وسقط خلالها وبسببها مئات الملايين من الضحايا الأبرياء من كل جانب دون ذنب أو جريرة إلا طمع القادة والساسة فى المكاسب والثروات وتكوين إمبراطوريات على أنقاض الحضارة والبشرية.
- أحمد محمود