"أخشى أن تلومني ابنتي يوما لأني عرضت حياتها للخطر ببحر إيجة"
جود جسومة يتحدث عن رحلته الصعبة من سوريا إلى فرنسا
وصل جود جسومة إلى فرنسا في 2016 بعد رحلة طويلة محفوفة بالمخاطر، بدأها من حلب. استقر بفرنسا بفضل البرنامج الأوروبي لإعادة توزيع المهاجرين، حيث كان يقيم في وقت سابق باليونان برفقة زوجته وطفلته التي تبلغ من العمر بضعة أشهر. ويقطن جود اليوم في منطقة بروتون في غرب فرنسا.
"كلب كان يحمل رأسا مقطوعا لشخص في فمه"
كان جود، الذي يتحدث اللغة الفرنسية بطلاقة، مسترسلا في الحديث عبر الهاتف، وهو يحكي لمهاجر نيوز تفاصيل رحلته قبل وصوله إلى منطقة بروتون في غرب فرنسا. "نحن جد سعداء هنا"، يؤكد بالكثير من الانشراح، خاصة وأنه رزق بطفلة ثانية في الشهر الأخير، سماها روز.
روز لم تعشْ محنة الرحلة الصعبة التي مرت بها شقيقتها الكبرى أثناء عبورها من تركيا إلى اليونان، وإن كانت لا تذكر أي شيء من ذلك بحكم صغر عمرها.
فر جود وزوجته آية من الحرب في حلب في يونيو/ حزيران عام 2015، حيث تعرضت وقتها المدينة القديمة، المصنفة ضمن التراث العالمي الإنساني من قبل اليونسكو، لقصف متواصل من قبل سلاح الجو السوري. "كنت مجبرا على تغيير مقر سكني أربع مرات نتيجة القصف الذي كان يهدم البنايات"، يحكي جود. "انتقلت من حي لآخر، لم أتمكن من العمل. كنت أستاذا للغة الفرنسية. الوضع أصبح لا يحتمل".
سلك جود وزوجته الحامل طريق أريحا، التي تبعد عن حلب حوالي 70 كلم، وتعتبر آخر معاقل النظام في منطقة إدلب. لكنهما وجدا نفسيهما محاصرين بالحرب حيثما اتجها. "كنت يوما في شرفة عمارة، وشاهدت كلبا يحمل شيئا في فمه، اعتقدت أنه فأر، وعندما دققت النظر تبين لي أنه كان يعض على رأس مقطوع لشخص"، يسرد جود مشهدا قاسيا دفعه إلى الهروب بأسرع وقت من المنطقة. "دخلت إلى البيت، كنت تحت الصدمة. قلت لزوجتي يجب ألا نبقى هنا لمدة طويلة. الحرب كانت قريبة منا جدا".
لم تكن لهما وجهة محددة، واختارا التوجه إلى منزل والدي جود في حلب الغربية، حتى يمكن لآية أن تضع مولودها. خاطر جود بحياته وهو يعود إلى حلب، لأنه أصبح مطلوبا لعدم التحاقه بالجيش في إطار الخدمة العسكرية الإجبارية. "عندما تكون البلاد في حالة حرب يتم جر جميع المواطنين لها...لكن أنا رفضت، لم أقدر على ذلك".
رغم كل المخاطر، لم يرغب جود في أن تضع زوجته حملها لوحدها. انتقلا تحت جنح الظلام إلى مصحة. "كنا مجبرين على الخروج رغم حظر التجول. في هذه الليلة تحديدا كان القصف عنيفا". لحسن حظهما وجدا مولدة في المصحة، لأن الأطباء عموما فضلوا البقاء في بيوتهم بسبب الوضع الخطير السائد في المدينة. "وضعت آية في الساعة السابعة صباحا 5 يونيو/ حزيران من 2015. وفي منتصف النهار من نفس اليوم، طالبونا بمغادرة المصحة ليحل محل آية شخص آخر".
ثلاثة أيام بعد ميلاد طفلتهما الأولى، قرر جود الخروج من حلب والتوجه إلى تركيا، وهو تحد كبير، سيوظف كل جهوده لتجاوزه. جود لا يملك جواز السفر، ولا ورقة مرور، والسلطات لا تمنح هذا النوع من الوثائق للسوريين الذين يفرون من الخدمة العسكرية. كما يجب أيضا تجنب مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية الذين يسيطرون على مناطق واسعة من شمال سوريا. رغم قرب الحدود التركية التي تبعد عن حلب حوالي 60 كلم، سيكون جود مجبرا على قطع مسافة أطول لتجنب المناطق المراقبة من النظام أو من تنظيم الدولة الإسلامية.
"عشت جحيما، كان من المفروض علي أن أختار: وقررت في الأخير أن أسلك الطريق التي تقع تحت مراقبة النظام. كنت مجبرا على المرور عبر 119 نقطة تفتيش للجيش حتى اللاذقية دون أن يتمكنوا من التعرف علي". ولكي يشتري صمتهم، كان جود يقدم لهم إتاوات. "كنت خائفا كل الوقت".
بمجرد وصوله إلى اللاذقية، انتقل جود في رحلة جوية إلى القامشلي في شمال شرق سوريا. "الرحلات الجوية الداخلية غير مراقبة بشكل كبير، وصلت إلى المنطقة الكردية بدون عناء"، يقول جود. وانطلاقا من هنا تمكن من اجتياز الحدود التركية بمساعدة أحد المهربين. "بلغت الحرارة 50 درجة في ذلك اليوم. كنت مجبرا على السير لثلاث ساعات تحت الشمس الحارقة...وعند وصولنا إلى الحدود، قام المهرب بقطع الأسلاك الشائكة، وقال لي اركض، إنها تركيا!’".
"ركضت، عبرت حقول الذرة والقمح، لم أكن أعرف مكان وجودي. أصبت في قدمي، تمزقت ملابسي". وأخيرا تمكن من الوصول إلى بلدة بمساعدة أحد الأتراك التقاه بالصدفة، والذي دفع له 50 يورو "لمرافقته مسافة 7 كلم...لم يتبق لي مال، كنت أدفع للمهربين كل الوقت".
بدأ في البحث عن طريقة للسفر إلى إسطنبول. "وجدت حافلة متجهة إلى هناك. بعد 17 ساعة من الطريق، وصلت أخيرا إلى إسطنبول". ومن هنا بدأ يفكر في إلحاق زوجته وابنته به، اللتين استطاعتا مغادرة سوريا لتوفر كل منهما على جواز سفر. لكن الرحلة كانت معقدة بالنسبة لهما أيضا. انتقلتا في البداية إلى طرابلس في لبنان، ثم توجهتا إلى مدينة مرسين التركية على متن سفينة للنقل. ثم سافرتا في رحلة جوية إلى إسطنبول. "كل هذه التنقلات كلفتني كثيرا وحملتني ديونا"، يوضح رب الأسرة.
في تركيا لم يتحسن وضعه. من أستاذ للغة الفرنسية إلى عامل في معمل للخياطة. كان يحصل على 250 يورو كراتب شهري"، في بلد الحد الأدنى للأجور فيه 450 يورو. تعرضت طفلته زين لوعكة صحية جراء الرطوبة في الغرفة التي كانت تسكنها الأسرة. لم تشجعه هذه الظروف على البقاء في تركيا، فقرر التوجه إلى أوروبا وحيدا، والإتيان بأسرته في وقت لاحق في إطار لم الشمل. لكن آية رفضت أن تنفصل مجددا عن زوجها. وفي آخر المطاف "قررنا عبور بحر إيجة جماعيا".
على سواحل ديديم التركية، تعرف جود على مهرب "دله عليه مقرب من العائلة". وبفضل المال الذي جمعه من العمل في تركيا استطاع أن يوفر ثمن العبور السري نحو أوروبا. في فبراير/ شباط كان موعد الرحلة. "دفعنا 1300 دولار للعبور. لم يكن الثمن مرتفعا، لأنه كان فصل الشتاء. وتنازل المهرب عن ثمن العبور بالنسبة للطفلة"، يتذكر جود. "اشتريت سترات النجاة خاصة بي وبأسرتي. لم أثق في تلك التي سلمنا إياها المهربون. كنت أنظر إلى زين، كان عمرها سبعة أشهر، ولم يكن يظهر من جسمها النحيف وسط السترة إلا الشيء القليل".
الساعة تشير إلى الثالثة صباحا. صعدت الأسرة إلى قارب زوديك، يتسع لـ 12 شخصا، في حين كان على متنه 55 شخصا. "كان المهرب مسلحا. كنا قلقين لكن لم يكن بودنا القيام بأي شيء. لقد قال لنا "شعاع الضوء هناك، هو لجزيرة فارماكونيسي، إنها اليونان".
انطلق القارب. "كان المطر يهطل، بدأت أصلي من أجل نجاتنا. أعداد كبيرة من الأشخاص ماتوا في هذا البحر...كنت خائفا أن يعترض طريقنا حرس السواحل التركي، طلبت من بقية الركاب ألا يشغلون هواتفهم، حتى نعبر في جنح الظلام". وصل الزورق إلى الجزيرة اليونانية العسكرية الصغيرة بعد ساعتين من الإبحار. "شغلنا هواتفنا، وبدأنا في القيام بحركات ضوئية عن طريقها. الجنود اليونانيون استقبلونا بحفاوة، لكن بعد مرور ثلاثة أيام أرسلونا إلى منطقة أخرى" بجزيرة ليروس المجاورة.
في مخيم جزيرة ليروس، علم جود لأول مرة ببرنامج إعادة توزيع المهاجرين الأوروبي. وهو برنامج عمل به لفترة عامين، يتم بموجبه توزيع المهاجرين على مجموع الدول الأوروبية انطلاقا من اليونان وإيطاليا. "لكن الكل كان يرفض المشاركة في البرنامج، لأنه لم يقترح ألمانيا كبلد لاستقبال المهاجرين"، يذكر جود. "أنا رفضت في البداية، لأنه لم أكن أعرف ما الذي كان يقال لي".
فضلت أسرة جسومة السفر إلى أثينا بإمكانياتها الخاصة، والتوجه إلى غرب أوروبا عابرة البلقان. لكن عند وصولها إلى العاصمة اليونانية، التقى جود بالصدفة في ميناء بيرايوس بعاملة فرنسية في المكتب الأوروبي للدعم في مجال اللجوء " شرحت لي برنامج إعادة التوزيع. وأوضحت أنه لا يمكن معرفة بلد الاستقبال التي يمكن إرسالنا إليه، ويجب علينا انتهاز هذه الفرصة". سجل جود وآية على قوائم البرنامج، وفي انتظار البت في ملفهما أحيلا إلى فندق من "ثلاثة نجوم" وسط أثينا.
بعد ثلاثة أشهر، أي في الأول من أبريل/نيسان 2016، اتصلت سفارة فرنسا في أثينا بجود. ليخبره أحد موظفيها أن فرنسا مستعدة لاستقباله. "قضيت خمس ساعات في لقاء بالسفارة الفرنسية، ثم بقينا في انتظار الرد لمدة 20 يوما. لم نتوقف بالتفكير في مآلنا في حال رفضت فرنسا استقبالنا". في 23 من أبريل/ نيسان ينتهي انتظارهما: جود وآية مرحب بهما على التراب الفرنسي في منطقة بروتون في مدينة مارتيني-فيرشو بمنطقة فيلين غرب البلاد.
"كنا جد سعيدين، لكن لم تكن لدينا أية فكرة عن هذه المدينة...بحثت على الأنترنت، وعرفت أنها مدينة يسكنها 2600 نسمة"، فيما عاش هو في مدينة حلب التي كان يسكنها 2 مليون شخص قبل الحرب. أسرة جود كانت ضمن خمس عائلات تم اختيارها لاستقبالها في مارتيني-فيرشو. "لازلت أذكر عندما نزلنا من الحافلة، كان عمدة المدينة في استقبالنا، وبدأ خطابه باللغة العربية. لقد تأثرت كثيرا".
اندمج جود وآية منذ الشهور الأولى في حياتهما الجديدة. "اندماجنا مر بشكل جيد، وكان من المفروض الانسجام مع بعض العادات الفرنسية"، يقول جود مبتسما. "هنا الرجال لا يقبلون بعضهم البعض لتبادل التحية. في سوريا نجد العكس". والتحدث باللغة الفرنسية، كان مكسبا كبيرا بالنسبة له. "أقمنا علاقات صداقة بسرعة. ذهبنا معهم في مناسبات إلى المقهى، بل البعض من الأصدقاء الفرنسيين ساعدوني ماديا لشراء سيارة صغيرة...لقد شهدت ولادتي الجديدة".
شراء السيارة، كان ضروريا، حيث سمح لجود التوجه إلى مدينة رين عاصمة الإقليم التي تبعد 50 كلم، إذ سجل أب الأسرة في جامعة رين 2. استأنف جود دراسته في ماستر اللغات، فيما قررت زوجته متابعة دراستها في العلوم التربوية. كما أصبح جود يعمل مترجما لدى جمعية تُعنى بشؤون اللاجئين.
اندماج الصغيرة زينة، البالغة من العمر اليوم عامين، يمر أيضا بدون أية صعوبة. تتعلم في الوقت الحالي لغة موليير. "تتابع تعليمها في روضة الأطفال، وتعود كل يوم بكلمات فرنسية جديدة " لا أريد، لا، المزيد"، تلك هي كلماتها المفضلة"، يقول جود ضاحكا.
في سبتمبر/ أيلول 2016 بدأ في تأليف كتاب بعنوان "جئت من حلب" بمساعدة الصحفية لورانس كومبرون التي التقاها في جزيرة ليروس قبل أشهر من هذا التاريخ. "عملت ليل نهار، لكن أنا فخور بصدوره. كان يجب أن أحكي..."، يشير جود، الذي انتقل اليوم للاستقرار في مدينة لو رو، وهي مدينة قريبة من رين. "إنه أمر متعب قطع 50 كلم كل يوم صباحا ومساء للذهاب إلى الكلية".
لا يتصور جود أن يتوجه إلى مكان آخر بعد اليوم. "إنها حياتي ابتداء من الآن: لدي غرفة، دبلوم، أسرتي مؤمنة"، يبتسم جود. "أتمنى فقط أن تفهم زين اختياري عندما تكبر...أتمنى ألا تلومني لأني عبرت بها بحر إيجة. هذه المسألة تقلقني قليلا...كنت أعلم أن الأمر كان خطيرا، وخطر الموت كان كبيرا. أخشى أن تلومني يوما لأني عرضت حياتها للخطر. أخشى أن تقول لي «كيف تجرأت على ذاك".