ليلة السادس عشر من آب، عندما حدد العماد قائد الجيش ساعة الصفر لمعركة تحرير الجرود المحتلة، كان هاجسه الأساسي إنجاز عملية نظيفة تنتهي بالانتصار المكتمل بتحديد مصير الأسرى العسكريين التسعة لدى «داعش» منذ عام 2014، والذين لم يدخر جهدا طوال تلك السنوات لمعرفة اي معلومة عن مصيرهم، حيث عملت المؤسسة بصمت متتبعة كل الخيوط للوصول الى حقيقة تثلج صدر محبيهم، بعدما تحولوا الى قضية بحجم الوطن.
ملف ما غاب يوما عن «أمر يوم» اصدره قائد الجيش العماد جوزاف عون، أو عن توجيهات وجهها الى جنوده يوم كان على جبهة عرسال، مصوبا بوصلتهم نحو جرود طال احتلالها، تحتضن في مكان ما رفاق سلاح، مؤمنون واثقون، بأن الوطن والمؤسسة التي ينتمون اليها لن تتركهم ولن تنساهم.
مرت الايام والاشهر والسنوات، والتساؤلات تكثر وتزداد، فيما ينفخ الداعشيون ببوق الفتنة محرضين دون جدوى أهلا عيل صبر فراقهم على اولادهم، فيما في اليرزة من يعمل، يسأل ويحقق للوصول الى خيط. عشرات المعلومات والموقوفين، تضارب في الإفادات والمعطيات، عمليات أمنية وعسكرية، والنتيجة واحدة، مصير مجهول وضوء خافت في نهاية نفق الانتظار يشعله ما تبقى من أمل.
ضغط أمني، ترافق مع ضغط عسكري، أخذ في الحسبان دوما سلامة العسكريين الأسرى مع اطلاق كل قذيفة مدفعية او صاروخ من طائرة، فيما يعمل المدير العام للأمن العام المكلف من الحكومة اللبنانية في الداخل والخارج على محاولة احداث خرق في جدار «الصمت الـ«داعشي المطلق»، داقاً الابواب دون جدوى، لتنتهي الجولات دائما من حيث بدأت.
واذا كان هدف عملية «فجر الجرود» بحسب أمر عملياته، تحرير الارض من الارهابيين، فان غايتها الاولى ربما كانت حسم ملف العسكريين المخطوفين، والذي نجح تنظيم الدولة الاسلامية بعيد ساعات من معركة عرسال الاولى، من «شراء» عدد من العسكريين من احد فصائل الارهاب التي دخلت البلدة مقابل مبلغ من المال، ليرسو عدد الاسرى لديه على تسعة افراد.
ومع انطلاق العمليات العسكرية وتقدم الوحدات تحت نشوة الانتصار، كانت التعليمات واضحة بأخذ كل التدابير الاحترازية عند استهداف المواقع والكهوف لعل في احداها الجنود الاسرى. غير ان رقعة الامل كانت تضيق كلما ضاقت مساحة رقعة العمليات، ليتعقد الموقف أكثر فأكثر مع إنجاز التحرير ومسح بقعة العمليات دون التوصل الى أي نتيجة، وسط إحباط ووجوم لدى رفاق انتظروا ساعة الملقى. إحباط لم يبدده سوى أهل أبوا الا ان يكمل الجيش مهمته حتى الشبر الاخير، رافضين التخفيف من وتيرة العمليات بحجة حماية ابنائهم كما حلى للكثير أن يروج، معتبرين ان حقهم يعود عند طرد الارهابيين وتحرير الارض.
اندفاع الاهالي قابله حرص من القيادة منذ قبيل انطلاق المعركة بإبقاء باب التفاوض مفتوح، حتى بعد انطلاقها، بشرط كشف مصير العسكريين الاسرى، حتى ان اليرزة، وبحسب المتابعين كانت قد أبدت سابقا استعدادها للاستجابة لبعض مطالب المسلحين في الجرود، بتأمين مواد غذائية ومحروقات، في حال تقديم المعلومات عن الاسرى، غير ان التنظيم استمر في اعتماد سياسة الغموض السلبي.
وتكشف مصادر وثيقة الصلة بالملف الى ان الساعات الماضية حملت مجموعة من المعطيات غير المبشرة بالخير والتي قطعت الكثير من خيوط الامل، حيث تكشف أن حالة التضعضع التي اصابت الارهابيين وانسحابهم العشوائي نحو الاراضي السورية تحت وقع الضربات التي تعرضوا لها، من جهة، وفقدان القرار المركزي الذي كان محصوراً في الرقة، نتيجة الاوضاع الميدانية في تلك المدينة، من جهة اخرى أدى الى تعقيدات اضافية في الملف، هذا فضلا عن ان الخلافات والانشقاقات التي حصلت طوال الفترة الماضية، بين المجموعات المسلحة في الجرود تارة، وبين عناصر «داعش» فيما بينهم طورا، أدت الى مقتل العديد من قياداتهم التي يرجح انها كانت على معرفة بمصير العسكريين، ذلك ان ما توافر طوال الفترة الماضية بين ان التنظيم اناط مسؤولية الاسرى ومصيرهم بحلقة ضيقة،يرجح ان يكون كامل افرادها قد لقي حتفه، وبالتالي فان من تبقى من عناصر التنظيم يحاول المراوغة والمساومة في ادعائه معرفة مصير العسكريين لكسب الوقت املا في انقاذ نفسه.
يبدو انه بات من حكم المؤكد لدى المعنيين ان «فجر الجرود» لم تحمل معها «فجر الحرية» التي انتظرها اهالي العسكريين الاسرى لدى «داعش»، كما انها لم تشف غليل امهات واباء وابناء طال انتظارهم في خيمتهم للقاء أحبة غابوا، ذاك الثاني من آب 2014، لتضيع صفتهم بين اسير ام مفقود، ليبقى الثابت، بطولة قد لا يكفيها فخرا ان تعمد بالشهادة. واذا كان القانون الوضعي اللبناني يحدد مهلة السبع سنوات لاعلان المفقود ميتا، فان العدالة الوطنية وحكم الشعب اللبناني قد صدر باعتبار الجنود التسعة ابطالا، سواء كانوا شهداء عند ربهم يرزقون، ام احياء خارج الارض اللبنانية.