"نار وغضب.. داخل بيت ترمب الأبيض"، عنوان الكتاب الذي يثير ضجة في أمريكا والعالم للصحفي والكاتب الأمريكي مايكل وولف، موقف ترامب العدائي من الكتاب ومؤلّفه كان سبباً مهمّاً في الدعاية له ونفاد النسخ المطبوعة منه فور نزولها الأسواق الجمعة في الخامس من يناير/كانون الثاني الجاري، وسعي محامي ترمب لمنع نشر الكتاب أضاف تشويقاً عليه ورغبة في الاطلاع على مضمونه وعجّل في الدفع به للمكتبات قبل موعده الرسميّ بأربعة أيام.
الحماقة الترامبية المعتادة جاءت بفوائد مهمة لـ وولف وكتابه وجعلت ما ورد فيه من فضائح عن الرئيس المشكوك في أهليته للحكم يلفّ العالم أجمع، ويساهم في تقريبه من احتمالية التحرك نحو إخراجه من الرئاسة، أو على أقلّ تقدير قطع الطريق عليه لعدم فوزه بفترة ثانية وأخيرة.
"نار وغضب" تصدّر أكثر الكتب مبيعاً مطلع العام الجاري، وكان تقديري أن كتاب هيلاري كلينتون، "ماذا حصل؟"، عن خسارتها في انتخابات الرئاسة الذي صدر يوليو/تموز الماضي سيحدث ضجة وسيكون أهمّ كتاب في 2017؛ لكنه لم يكن كذلك بعكس كتاب مايكل وولف. من الواضح أن صفحة هيلاري طُويت في تاريخ السياسة الأمريكيّة، ولم تعد تملك التأثير القوي، والجمهور ملّ منها كسياسية ومشاركة في الحكم وشخصية عامة، وهذا من ضمن أسباب ترجيح كفة ترامب عليها وفوزه المفاجئ بالرئاسة رغم أنه أضعف منها ولم يكن يستحق الاقتراب من البيت الأبيض وليس دخوله، ومن كتاب وولف نعرف أنه وحملته لم يكونا واثقين من الفوز، وكانا يتحضّران للهزيمة، باستثناء مدير حملته ستيفن بانون الذي كان واثقاً من الفوز.
المواطن الأمريكي العادي أراد التغيير، ولم يجد في هيلاري ما يجعله يختارها، هي بنظره الامتداد التقليدي للرئيس السابق أوباما فكان انحيازه إلى ترمب القادم من عالم التجارة إلى عالم السياسة من خارج عائلات السياسة المعروفة والذي يهاجم واشنطن ومنظوماتها التقليدية في الحكم ولا يترك أحداً دون أن يمسّه أذى لسانه، وهذا جذب إليه الفئات محدودة التعليم والثقافة والوعي. أمريكا أيضاً لديها فئات يمكن التأثير عليها بالأسلوب الديماغوغي مثل بلدان العالم الثالث تماماً، واتخاذ ترمب أسلوباً خطابياً شعبوياً غرائزياً يخاطب به حاجات ومطالب الجمهور العادي الذي تشغله الفواتير أكثر من السياسة جذب إليه كتلاً تصويتية إضافية، واليوم يظهر أن رهان الديمقراطيين على هيلاري لم يكن صائباً، رهانهم كان أجدى على منافسها الرصين السيناتور بيرني ساندرز صاحب التوجه الاشتراكي والسياسي والمثقف والذي يمتلك رؤية إصلاحية مختلفة عن هيلاري والتيار الذي يدعمها في الحزب الديمقراطي، ولم يكن في مسيرته مناطق خلل يمكن استثمارها ضده، كما حصل معها حيث وظفها ترامب جيداً وحشرها في زوايا عدة أمام الرأي العام.
كتاب وولف يضيف صفحة جديدة في كشف ترامب كرئيس، ويؤكّد ما يتردد كثيراً أنه ليس صالحاً لهذه المهمة، معتوه، لا يقرأ، لا يهتم بالمتابعة لما يجري حوله وفي العالم، مثل طفل، مزاجي، سريع الملل والغضب، غير مهتم بالشأن السياسي، ولا بمختلف القضايا، ويدعم ما رصده الكتاب أن معلومات تسربت مؤخراً عن جدول أعماله اليومي تقول إنه يقضي وقتاً طويلاً خلال يوم عمله في مشاهدة التلفزيون والتغريد، "3 ساعات صباحاً"، ثم يأخذ أوقاتاً أخرى متقطعة خلال يوم العمل. رئيس ليس على قدر المسؤولية في إدارة القوة العظمى وقيادة العالم، وهو والذين معه سواء من غادر منهم البيت الأبيض، أو من لا يزال فيه، مجموعة من الحمقى وجدوا أنفسهم فجأة يتحملون مسؤولية كبرى، وهم ليسوا بمستواها، ويظهر ذلك في العدد القياسي من الإقالات والاستقالات في البيت الأبيض لكبار مستشاريه وموظفيه ومسؤوليه ما يعكس الفوضى والارتباك وعدم الاستعداد لقيادة الدولة العظمى، وقريباً قد يترك منصبه واحد من العقلاء النادرين، وهو وزير الخارجية ريكس تلريسون أحد أرفع أركان حكومته، لتباين المواقف بينهما في قضايا السياسة الخارجية، ومن أبرزها أزمة الخليج، والتصعيد مع كوريا الشمالية وإيران، وحتى وزير الدفاع جيمس ماتيس يعاني من التقلبات المزاجية له.
أمريكا في أيدي رئيس متقلب متغير سريع الغضب كثير الخلافات والاشتباكات مع المحيطين به ومع ناقديه ويتهم كل من يختلف معه بالكذب والتزييف، ويخوض حرباً ضد وسائل الإعلام لأنها تكشف سلبياته، ويعطي أذنه وعقله لصهره الصهيوني جاريد كوشنر ليكون صاحب رأي مؤثر في كثير من القرارات، منها الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة إليها، وهو أخطر ما صدر عن ترامب شرق أوسطياً.
الكتاب في تقديري يؤكد المؤكد والمتداول خلال الأشهر التسعة الأولى من الرئاسة، والميزة أنه يقدم أدلة على لسان المحيطين بـ ترامب عبر المقابلات مع كثير منهم والتي وصلت إلى 200 لقاء، ومن أهمها ما جرى مع ستيف بانون مستشاره الإستراتيجي السابق الذي كان مقرباً جداً منه، وكان مدير حملته الذي أنقذه من التهاوي بعد استقالة بول مانفورت، وله دورٌ كبيرٌ في فوز ترامب، وهو يميني عنصري متطرف، وتمت إقالته في أغسطس/آب الماضي بعد احتدام الصراع مع كوشنر، وقد وجه لـ ترمب ضربات انتقامية قوية في حديثه مع وولف وكذلك لابنه الأكبر الذي وصمه بخيانة الوطن لأنه التقى محامية روسية سراً في برج ترامب ليحصل على معلومات تضر هيلاري، وكلامه أوجع ترامب فأخذ يجرّسه بأسلوب شوارعي متحدثاً عن أنه طائش وفقد عقله وأنه بكي مثل الأطفال حينما أقاله، وأنه مثل الكلب الآن، من المذهل أن يكون أمثال هؤلاء هم من يقررون مصير الكوكب بما تحت أيديهم من قوة ونفوذ هائلين.
خلاصة الكتاب أننا أمام مزيد من الانكشاف لرئيس قذفت به الديمقراطية في ظروف لا تزال يكتنف بعضها الغموض، فلن يكون وحده من فاز باعتباره عبقرياً جداً وذكياً جداً كما يصف نفسه رداً على اتهامه بفقدان الأهلية، لا بد أنه واجهة لتيارات رأت فيه شخصاً مناسباً للعمل من خلفه في تنفيذ أجندة متطرفة عنصرية عدوانية ضد دوائر عالمية ولعل العرب الدائرة الأكثر تضرراً.
ومن شدة الأسف أن أنظمة عربية تتحالف معه بشكل غير مبرر رغم هذا الفضح والانكشاف له في بلاده وحول العالم ولا تريد التخفيف من مستوى العلاقة معه، ارتباط مرضي، أو مكابرة وعناد، حتى لو أهان العرب في قضية القدس كما لم يهنهم رئيس من قبل، يتعاملون معه كأنه سيبقى للأبد حامياً لهم، فات عام من رئاسته، والعد التنازلي للسنوات الثلاث المتبقية يبدأ 20 الجاري، ومستوى شعبيته متدنٍّ، 37% فقط، وهو الأقل شعبية بين رؤساء أمريكا في عامهم الأول خلال نصف قرن.
يبتزّ العرب ويستنزف ثروات شعوبهم بإرادة أنظمة تابعة، وافتقادها للشعبية، واحتكارها السلطة دون اختيار حر يجعلها تواصل الاعتقاد المتوهم بأن بقاءها ومستقبلها بأيدي أمريكا ورئيسها. أنظمة تسلم قيادها ومصائر شعوبها وبلادها ومقدساتها وحقوقها التاريخية لشخص فاقد الأهلية للحكم بشهادة المقربين منه، هي علاقة بحاجة لتحليل نفسي أكثر منه سياسي.
أنظمة الطوائف جعلت العرب دولاً وشعوباً وموارد وثروات وقضايا كأنهم هنود حمر جُدد، وما على اللصوص الجدد في أمريكا غير تجهيز الشباك لاصطيادهم.