هل يمكن أن نفسر أن سبب وقوع السمكة في المصيدة عبر آلاف السنوات هو غياب الذكاء؟
بالتأكيد لا، والدليل على ذلك أن العديد من الحيوانات التي اثبت العلم الحديث امتلاكها لمخ يقترب في تركيبه من المخ البشري، كالقرود على سبيل المثال، تظل عاجزة هي الأخرى عن نقل المعارف وتطويرها، وهو ما يؤكد على مركزية مسألة الوعي التاريخي في عملية تطور الحضارة الإنسانية.
كيف نفسر التاريخ؟
إذا كنا قد اتفقنا على الأهمية الكبرى التي أثر بها التاريخ والوعي به في تطور الحضارة الإنسانية، فإن ذلك قد استلزم بالتبعية استحداث عدد من المناهج والطرق التي تعمل على فهم التاريخ بشكل صحيح، ذلك أن الماضي لا ينطق شارحاً نفسه من تلقاء ذاته، كما أن الحادثة الواحدة قد يكون لها أبعاد مختلفة وسياقات متباينة، مما يُصعب من فهمها بالشكل الذي يجعلنا نستفيد منها على الوجه الأمثل.
ولذلك ظهرت نظريات ومذاهب تفسير التاريخ، وهي نظريات تختلف نظرتها للحادثة التاريخية، بحيث تُعلي كل نظرية من جانب معين من جوانب الحادثة التاريخية، فتجعل منه الجانب الأكثر أهمية فتركز عليه وتجعل منه عمود الأساس في الحادثة، بينما تندرج باقي جوانب الحادثة من تحته في شكل فرعي.
من أهم نظريات تفسير التاريخ، التفسير الفردي، وهو ذلك التفسير الذي يهتم بإبراز دور الفرد في الحادثة التاريخية، فيهتم بتبيان دور الأبطال والملوك والسلاطين والقادة، ويجعل من هؤلاء صناع الحادثة التاريخية.
تشيع تلك النظرية التفسيرية في كتابات أكثرية المؤرخين القدامى، سواء كانوا من المسلمين أو من غيرهم، حيث اهتم هؤلاء في كتاباتهم بالتأريخ للشخصيات العظيمة، فتجدهم عندما يتناولون تاريخ مصر على سبيل المثال، إنما يؤرخون لفترات حكم زعمائها وقادتها وحكامها، دون أن يتطرقوا لحياة المواطن العادي أو للعامة من الشعب المصري.
ورغم شيوع التفسير الفردي في كتابات أعلام المؤرخين، إلا أن النظرة الموضوعية تقتضي الشك في الأساس الذي بُني عليه، على سبيل المثال، يطرح الدكتور أحمد محمود صبحي، في كتابه في فلسفة التاريخ، سؤالاً مهماً، حول أهمية ودور التفسير الفردي للحدث التاريخي، فيقول
(هل الأحداث التي تصل لدرجة من التأثير والفاعلية من خلق ساسة وقواد بلغوا مرتبة البطولة، أم أن هذه الأحداث حصيلة حضارة أسهم فيها شعب بجميع أوجه نشاطه اقتصادية واجتماعية وعلمية وفكرية وفنية وأدبية، فصلاً عن أنظمته من دين ولغة وعادات؟).
وان كان التفسير الفردي للتاريخ هو الأكثر استخداماً في كتب الأقدمين ومؤلفاتهم، فإننا في نفس الوقت نجد أن التفسير الديني قد احتل مكاناً مرموقاً ضمن نظريات التفسير التاريخي.
فبحسب التفسير الديني، فإن الدين والعقائد والشرائع تلعب دوراً فارقاً في توجيه الحوادث التاريخية وصياغتها، فلا يمكننا مثلاً فهم التاريخ المصري القديم إلا بعد فهم التحولات الكبرى التي مر بها الدين في مصر القديمة، منذ مرحلة تعدد الألهة في المرحلة المبكرة من عصر الأسرات إلى سيادة أمون في نهايات الدولة الحديثة، مروراً ببعض الفترات التي تعرض فيها الدين لتغيريات حادة، مثل مرحلة التوحيد في عصر امنحتب الرابع.
وكذلك لا يمكننا فهم تاريخ بلاد الرافدين، إلا بمعرفة الكثير من التفاصيل عن عبادة عشتار وأشور ومردوخ.
أما بالنسبة لبعض الأحداث التاريخية الكبرى، مثل الفتوحات الإسلامية، فلا يمكن تناولها تناولاً صحيحاً إلا بعد الرجوع لمصادر الدين الإسلامي الرئيسة، القرآن والحديث الشريف، لأن تلك المصادر تتضمن الكثير من النصوص المتعلقة بالفتوحات والجهاد والغزو، وتمكننا من فهم الدوافع الحقيقية، التي حدت بالموجات المتتالية من العرب المسلمين للسريان شرقاً وغرباً.
ومن التفسيرات التي ظهرت في العصر الحديث، التفسير المادي للتاريخ، والذي جرى الاهتمام به بواسطة عدد من الفلاسفة والمفكرين من أمثال هيجل وكارل ماركس وانجلز.
بموجب النظرة المادية للتاريخ، فإنه يجب البحث عن العوامل الاقتصادية والاجتماعية المسببة لكل حادثة، حيث اعتبر المفكرون الماديون أن التاريخ هو نتاج تطور للصراع الاقتصادي، بمعنى ان الاقتصاد هو المسبب الحقيقي لكل الحوادث.
وبموجب تلك النظرة تم تفسير الكثير من الأحداث، مثل ثورة الزنج التي وقعت في العصر العباسي، حيث اعتقد البعض انها ما قامت إلا لسيطرة طبقة من الاقطاعيين على معظم الموارد المالية وعلى مساحات واسعة من الأراضي، مما حدا بمجموعة كبيرة من العبيد المقهورين الذين يقبعون في الدرجة الأخيرة من الهرم الاجتماعي في المجتمع المسلم حينذاك إلى الثورة للمطالبة بحقوقهم.
وفي السياق نفسه يمكن تفسير حركة القرامطة، وحركة بابك الخرمي، وحركة الزط.
كما يمكن ان نطبق تلك القواعد نفسها، لتفسير بعض الحركات الاحتجاجية والثورات، خارج العالم الاسلامي، ولعل الثورة الأمريكية في نهايات القرن الثامن عشر والثورة البلشفية في بدايات القرن العشرين من أصدق الأمثلة على ذلك.
وإلى جانب تلك النظريات الثلاث الكبرى، التفسير الفردي والتفسير الديني والتفسير الاقتصادي، توجد العديد من التفسيرات الأخرى المهمة، مثل التفسير الطبيعي، الذي يرى أن للظواهر الطبيعية دور كبير في تشكيل الحوادث التاريخية، وكذلك التفسير النفسي، وتفسير التحدي والاستجابة، وغيرها من النظريات التي شاعت شيوعاً كبيراً في الأوساط العلمية والأكاديمية.
محمد يسري