مصطفى العبيدي
رغم محاولة أحزاب السلطة في بغداد، التمسك بهيمنتها على العملية السياسية، إلا أن تداعيات الانتفاضة تثبت ان زمام الأمور يفلت من يدها والضغوط والحصار يضيق عليها، بعد رفض الشارع لقاءات الأحزاب لتشكيل حكومة جديدة وفرض قانونها الانتخابي، وبعد انتقادات لاذعة من الأمم المتحدة لعنف السلطة.
وجاء أعنف انتقاد اممي لتعامل السلطة العراقية مع المتظاهرين المطالبين بالإصلاحات، عبر إفادة ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق جينين بلاسخارت، لأعضاء مجلس الأمن الدولي، اتهمت فيها سلطات بغداد بانها “تستخدم القوة المفرطة ضد المتظاهرين السلميين الذين خرجوا للمطالبة بحياة أفضل لبلدهم” منتقدة كون “المتظاهرين في العراق، الذين يطالبون بالحرية والمساواة، يدفعون ثمناً باهظا، بلغ نحو 400 قتيل وجرح 19 ألفاً آخرين” ومنوهة أن “الاعتقالات والاحتجازات غير القانونية وعمليات الاختطاف والتهديد والترهيب مستمرة”.
وفيما أكدت بلاسخارت أن “إغلاق وسائل إعلامية، وقطع شبكة الإنترنت، وحجب وسائل التواصل الاجتماعي تترك الانطباع العام بأن السلطات المسؤولة لديها ما تخفيه” فانها شككت بالإصلاحات التي أعلنت عنها السلطات العراقية، مشددة على “أن محاربة الفساد ستكون مفتاحاً لمعالجة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تواجه البلد” كما دعت إلى انتخابات حرة ونزيهة. ورغم ان أحزاب السلطة، شنت حملة انتقادات واتهامات لممثلة الأمين العام بالتدخل في شؤون العراق، إلا ان تقريرها قوبل باستحسان وترحيب المتظاهرين والعراقيين عموما.
وفي شكل آخر للضغوط الدولية، أعلنت الإدارة الأمريكية هذه الأيام، أنها تبحث فرض عقوبات على مسؤولين عراقيين تورطوا بالتعامل مع الجنرال الإيراني قاسم سليماني وقتلوا متظاهرين طالبوا بالإصلاحات وتورطوا بالفساد. وهذا القرار إذا تحقق، فإنه سيشمل معظم القيادات السياسية العراقية.
وفي السياق ذاته، انضم بابا الفاتيكان فرنسيس، إلى منتقدي الحملة الأمنية الصارمة على المحتجين المناهضين للحكومة في العراق، قائلا في عظته الأسبوعية “أتابع الموقف في العراق بقلق. وقد علمت بكل ألم بمظاهرات الاحتجاج في الأيام الماضية التي قوبلت برد قاس مما أسفر عن سقوط عشرات الضحايا” مؤكدا “إنه يصلي من أجل القتلى والمصابين ويبتهل إلى الله أن يحل السلام في البلاد”.
أما التطور اللافت الآخر في انتفاضة المحتجين في العراق، وبعد تأخر لأكثر من شهرين، فهو بدء حراك شعبي في المحافظات ذات الغالبية السنية، لدعم المتظاهرين المطالبين بالإصلاحات. وبالرغم من تحذيرات أغلب القيادات السياسية السنية والشيعية، للشارع السني، من الدخول على خط التظاهرات المندلعة منذ تشرين الأول/اكتوبر الماضي، وذلك لتجنب انتقام الحكومة والميليشيات التي ينظر أغلبها للسنة بأنهم “دواعش” وأتباع النظام السابق، إلا أن الشارع السني أصر أن تكون له كلمة في هذه الملحمة الوطنية، في تأكيد على وحدة معاناة العراقيين جراء العملية السياسية الفاسدة والفاشلة. وقد شهدت محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى وديالى وكركوك، تجمعات ومسيرات حاشدة، تركز أغلبها في الجامعات وسط ترديد هتافات وطنية تعبر عن وحدة معاناة ومطالب الشعب والتنديد باستخدام العنف ضد المتظاهرين. كما وصلت قافلة مساعدات من المناطق المسيحية في نينوى، إلى ساحة التحرير في بغداد، وهي تحمل مواد مثل خوذ حماية الرؤوس من الرصاص والقنابل، والمستلزمات الطبية للجرحى، والماء، والطعام ومبالغ من المال.
أما فعاليات الانتفاضة التي ما زالت تشل الحياة في بغداد والمحافظات، فإنها تتواصل بالتوازي مع محاولات لأحزاب السلطة تفتيتها بمختلف الأساليب كان اخرها استخدام أسلوب التظاهرات المضادة، عبر نزول الآلاف من أنصار ميليشيات معروفة إلى ساحة التحرير، ملوّحين بالأعلام وحاملين صوراً لمقاتلي الميليشيات والمرجع السيستاني، لتنتهي التظاهرة بطعن نحو 20 من المعتصمين في الساحة بالسلاح الأبيض، بهدف خلق الخوف والبلبلة بين المتظاهرين.
ويبدو واضحا ان أحزاب السلطة لم تستوعب دروس الانتفاضة وتحذيرات المتظاهرين، وما زالت تمارس أساليبها القديمة نفسها بالصراع فيما بينها لانتزاع أكبر ما يمكن من كعكة السلطة، ولذا أسفرت المباحثات الحزبية عن إقرار البرلمان، قانونا جديدا لمفوضية الانتخابات (كرس المحاصصة) يقضي بإنهاء عمل المفوضية الحالية المتهمة بالتزوير واستبدالها بمفوضية جديدة من القضاة، مع النية لاصدار قانون انتخابات جديد أيضا إضافة إلى استمرار الأحزاب بالتشاور لتشكيل الحكومة المقبلة، وهو ما دفع تنسيقيات الحراك الشعبي إلى إعلان رفض جميع القوانين والحكومات التي ستشكلها الأحزاب والإصرار أن يكون رئيس الوزراء المقبل وحكومته من بين الشعب وليس من الأحزاب.
وما زاد من غضب الشارع المحتج، الأنباء المتداولة عن وجود الجنرال الإيراني قاسم سليماني في بغداد لتوجيه المباحثات (التي تقتصر على القوى الشيعية) حول اختيار رئيس وزراء جديد بديلا عن عادل عبد المهدي، ما زاد من سخط المتظاهرين على إيران وجعلهم يعاودون إحراق قنصليتها في النجف للمرة الثالثة خلال أيام قليلة، إضافة إلى إطلاق حملة لمقاطعة المنتجات الإيرانية، وإصدار تنسيقيات التظاهرات بيانا دعت فيه المنافذ الحدودية والمطارات العراقية إلى منع دخول سليماني إلى العراق.
وفي المحصلة، فإن آمال العراقيين في هذه المرحلة، وفي ظل انقطاع جسور الثقة بين الشارع وأحزاب السلطة، يتركز في أهمية وجود عامل دولي ضاغط لدعم التظاهرات ومطالبها المشروعة، يمنع فرض سيناريوهات تلك الأحزاب وميليشياتها في الالتفاف على مطالب المحتجين للبقاء في السلطة وضياع تضحيات المتظاهرين، وإلا فالاحتمالات غير مستبعدة في وقوع التصادم الحتمي بين الطرفين بما ينطوي عليه من مخاطر مفتوحة الآفاق.