أذربيجان ومستقبل الأراضي المحررّة – معتز محي عبد الحميد
بعد حرب دامت 44 يوما، أحرز الجيش الأذربيجاني بسواعد ودماء أبناءه نصراً ساحقاً على الجيش الأرميني، وأنهى صراعاً دام سنوات طويلة وراح ضحيته الآلاف من أبناء الشعب الأذربيجاني أصحاب الأرض الأصليين. وبهذا سطر الجيش الأذربيجاني ملحمة ونصراً كبيرين ليس فقط لأذربيجان فحسب، بل للأمة الإسلامية جمعاء.
ولا شك أن من حق الشعب الأذربيجاني أن يفرح بالنصر الذي حققه جيشه وراح في سبيله دماء أبناءه، ومن مظاهر الاحتفال بهذا النصر الكبير وتخليدا له افتتاح “حديقة الغنائم العسكرية” في قلب العاصمة الأذربيجانية باكو والذي أمر بإقامتها الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف.
ففي الثاني عشر من نيسان 2021 افتتح الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف هذا المتحف الضخم لجيش النصر الأذربيجاني. ويضم المتحف بعض من الأسلحة والمعدات الثقيلة وأنظمة الصواريخ والمركبات العسكرية والذخيرة الأخرى التي تركها الأرمن وفروا هاربين من ساحة القتال. ومن بين المعروضات المميزة والتي لا يمكن أن تنسى هي اللوحة الضخمة المصنوعة من لوحات أكثر من ألفين سيارة اغتنمتها القوات المسلحة الأذربيجانية من الأراضي المحررة. كما يوجد بـ“حديقة الغنائم العسكرية” أيضا بقايا صواريخ “إسكندر-إم” الباليستية المدمرة التي قذفتها أرمينيا على مدينة “شوشا” بهدف القضاء على هذه المدينة التاريخية،.
دمار وتخريب
لقد كشفت هذه الحرب مدى الدمار والتخريب الذي قامت به القوات الارمنية في أراضي أذربيجان التاريخية؛ حيث لم تتوقف أضرار هذا الأمر على مجرد احتلال الأراضي وقتل المدنيين، بل الأمر تجاوز هذا بكثير, حيث جرى خلال الثلاثين عاما الماضية اعتداء الأرمن الوحشي على المعالم التاريخية والدينية الأذربيجانية، وكذلك دور العبادة، بما فيها أكثر من 70 مسجدا.. لذلك يقوم هذا المتحف بتوثيق انتصار الشعب الأذربيجاني على المحتلين الأرمن، وكذلك يُسجل جرائم الحرب التي ارتكبوها خلال العقود الماضية، شأنه في ذلك شأن المتاحف العسكرية المختلفة المنتشرة في كثير من دول العالم مثل روسيا وبولندا التي أقامتا متاحف عسكرية لتوثيق النصر على الفاشية الألمانية.
تحرير الارض وعودة النازحين
إن تحرير اراضي إقليم قره باغ الجبلية وسبع مناطق أخرى من الإحتلال الأرمني والذي تم في ايلول 2020 قد ساهم في حل إحدى حالات النزوح الداخلي الطويلة والواسعة النطاق في العالم. وكما هو المعلوم فإن النزوح القسري الذي حدث في جمهورية أذربيجان كان سببه العدوان العسكري الذي شنته أرمينيا من خلال عمليات التطهير العرقي التي قامت بها في بداية التسعينات في الأراضي الأذربيجانية، والتي نتج عنها تشريد أكثر من مليون أذربيجاني قسرا من أراضيهم الأصلية ومن بينهم مئات الآلاف من اللاجئين الأذربيجانيين الذين فروا من أرمينيا والذين حصلوا على الجنسية الأذربيجانية فيما بعد. وقد تم توطين جميع النازحين داخل أذربيجان وبشكل مؤقت في ظروف قاسية من جميع النواحي البيئية، ، والاقتصادية، والاجتماعية وقد تم ايواؤهم حينذاك في أكثر من 1600 قصبة مكتظة بالسكان، وفي 12 مخيما من الخيام وقرى وفي عربات نقل البضائع بالسكك الحديدية، ومباني نصف مشيدة، ومرافق عامة وغيرها.
لقد أثر الهجوم الأرمني الذي وقع خلال العام الماضي بشكل سلبي وبشدة على حياة مئات الآلاف من الأشخاص في أذربيجان، مما أضطر ما يقارب 84 ألف شخص إلى مغادرة مساكنهم وبشكل مؤقت، ومن بينهم النازحون الأصليون الذين هم أصلا نازحون ويعيشون خارج مساكنهم ويعانون مرارة ومأساة النزوج القسري، وإنه وعلى الرغم من عودة معظم هؤلاء الأشخاص إلى ديارهم، إلا أن هناك يوجد 85 أسرة ما زالت نازحة في منطقة ترتار في أذربيجان وقد عانت بشدة خلال فترة النزاع بسبب القصف المدفعي المتعمد للأحياء المدنية وما زالت لغاية الآن تعيش في الملاجئ الدولية. ان أذربيجان تعتبر واحدة من الدول السباقة في العالم التي إتبعت سياسة إقتصادية حكيمة حولت نفسها من متلق للمساعدات الإنسانية إلى دولة مانحة. ومنذ عام 1998 فإن جمهورية أذربيجان تنتهج السياسة الإستراتيجية التي تسعى الى تحسين الظروف المعيشية للسكان المشردين قسرا، وتقوم بمساعدة وتوفير العديد من الخدمات الاجتماعية، فقد قامت ببناء أكثر من مائة منطقة سكنية جديدة وحديثة من أجل ضمان توطينهم المؤقت. وقد تمكنت السلطات الوطنية من تحقيق تقدم كبير في تحسين الظروف المعيشية للسكان النازحين قسرا من خلال توفير البنية التحتية من مدارس ومستشفيات ، وتزويد ما يقارب 315000 شخص يعيشون في ظروف صعبة بمنازل مؤقتة في القصبات المنشأة حديثا دون المساس بحقهم في ضمان عودة آمنة وكريمة،. ومن الجدير بالذكر فإنه قد تم تأكيد حق العودة غير المشروطة والآمنة للسكان النازحين الأذربيجانيين في عشرات القرارات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس الأمن، ومنظمة التعاون الإسلامي، والجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وغيرها من المنظمات الأخرى التي طالبت بذلك وأشادت أيضا بالتدابير المرحلية الحكيمة التي إتخذتها حكومة أذربيجان لمساعدة سكانها الذين شردوا من ديارهم قسرا بفعل الإحتلال والعدوان الأرمني.
الالغام وعودة النازحين
لا شك بأن أهم الأولويات والتحديات التي تقف أمام حكومة أذربيجان حاليا خاصة بعد تحرير أراضيها في عام 2020 تكمن وتتمثل بالقيام بتطهير هذه الأراضي من الألغام وغيرها من الذخائر الحية التي قامت أرمينيا بزرعها في الأراضي الأذربيجانية والتي ما زالت تشكل خطرا على أرواح المواطنين، وكذلك القيام بترميم المدن والمناطق الأخرى التي دمرت كليا خلال فترة الإحتلال، وتهيئة الظروف اللازمة حتى يتم توفير عودة طوعية وآمنة وكريمة للنازحين إلى أراضيهم الأم. ولكن وللأسف الشديد، فإن هذه العملية ما زالت تعيقها عدم إستجابة أرمينيا ورفضها القاطع لتقديم أي مساعدة في إظهار الخرائط الإستبيانية للمناطق الملغمة التي حررتها أذربيجان. وهذا الأمر، بالطبع، يعتبر ضرورة ملحة من أجل إنقاذ الأرواح والتسريع في عمليات إعادة التأهيل وإعادة الإعمار خاصة بعد تلك الفترة الطويلة من الصراع.
بيان ثلاثي
ومن الجدير بالذكر أنه خلال تلك الفترة التي أعقبت التوقيع على البيان الثلاثي حول وقف النشاطات العسكرية بين أرمينيا وأذربيجان في رعاية روسيا في تشرين الثاني الماضي، فقد سقط المئات من المواطنين ضحايا لتلك الانفجارات التي سببتها الألغام المرزوعة من قبل أرمينيا في تلك المناطق، ومن بينهم كان هناك نازحون غير مبالين بالخطر الذي ينتظرهم رغما من وجود التحذيرات بذلك وهم مدفوعون بشغفهم بزيارة أراضيهم المحررة. وبشكل عام ومنذ بداية الصراع، فقد لقي آلاف الأشخاص مصرعهم وأصيبوا بجروح خطيرة نتيجة الانفجارات التي سببها وجود الألغام في تلك المناطق. وعلى الرغم من موقف أرمينيا المتصلب بشأن موضوع التعاون في مجال إزالة الألغام الذي يعتبر ضرورة ملحة لإعادة بناء الأراضي التي دمرها الإحتلال غير المشروع لمدة 30 عاما، فإن حكومة أذربيجان تتوقع فعليا من المجتمع الدولي ممارسة الضغط على أرمينيا من شأنة التعاون في القضاء على العواقب الإنسانية لأنشطتها غير القانونية. وقد بدأت أذربيجان بالفعل في أعمال إزالة الألغام وإعادة الإعمار في المنطقة، من أجل توفير المجال للنازحين بإمكانية العودة الآمنة والكريمة الى أراضيهم، مع الأخذ بعين الإعتبار الكم الهائل لعدد الاشخاص والطاقة الضخمة المتوفرة للعودة الكبرى إلى الأراضي المحررة. ويجري حاليا تنفيذ العملية من خلال العديد من المشاريع التجريبية. وقد تم تنفيذ مشروع تجريبي لجمع المعلومات اللازمة للعودة وإعادة الإدماج في 10 قرى بمنطقة آغدام. والهدف من هذا المشروع هو فحص الآلية التشغيلية للعودة وإعادة الإدماج في الأراضي المحررة، وإستخدام هذا المشروع التجريبي كنموذج لعملية العودة المستقبلية بما يتماشى مع مبادئ الأمم المتحدة بشأن النزوح الداخلي، و الإتفاقيات الأساسية لحقوق الإنسان وأفضل الممارسات المعمول بها، بالإضافة إلى إشراك السكان المعنيين. ويتم في الوقت الراهن إجراء المسوحات الأولية أيضا لتقدير عدد الأشخاص الراغبين في العودة إلى أماكن إقامتهم السابقة. كما سيتم أيضا تطبيق التجربة الناجحة لإعادة التأهيل والعودة إلى قرية (جوجوق مارجانلي) التي تم تأمينها من الإستهداف العسكري المباشر لأرمينيا بعد تحرير المرتفعات الاستراتيجية من الإحتلال. كان (جوجوق مارجانلي) مشروعا فريدا للعودة، تم تنفيذه لأول مرة في أذربيجان، حيث جرى إنشاء البيئة التمكينية لـ150 عائلة للعودة إلى أراضيهم الأصلية بعد 23 عاما. والآن وبعد إنتهاء الحرب وزوال الإحتلال الذي إستمر ثلاثة عقود نتيجة العدوان غير المبرر، يريد الشعب الأذربيجاني أن يعيش بسلام دائم ويتطلع نحو مستقبل زاهر في بلاده.