تزرعون سبع سنين دأبا

مقالات 12:37 19.04.2022
       إن كان ثمة عظة واحدة يمكن أن نستلهمها من التداعيات القاسية التى يعانيها الاقتصاد العالمى منذ أكثر من سنتين على خلفية جائحة كورونا، ثم الحرب الروسية الأوكرانية، وما استتبعهما من اضطراب سلاسل الإمداد والصدمات النفطية وموجات التضخم وسياسات التشديد النقدى فى غالبية الدول، وأثرها السلبى على مديونية الدول النامية والناشئة والفقيرة... إن كان ثمة دروس مستفادة من ذلك كله فهى أن سلبيات العولمة قد باتت حاضرة بوجه عبوس أكثر من أى وقت مضى، وأن تلك السلبيات تجد سبيلها عبر قنوات العدوى المالية والنقدية لتنشر الأمراض الاقتصادية شرقا وغربا، تماما كما تنتشر الأوبئة.
      لنفهم ذلك دعنا نتمثل قرارا من الفيدرالى الأمريكى برفع أسعار الفائدة الأساسية بربع فى المائة، لتبدأ رحلة صعود من مستوياتها قرب الصفر حتى مارس الماضى إلى مستويات متوقعة بحلول نهاية العام تقترب من 2.25%. يتداعى لذلك القرار بل لمجرد إطلاق إشارات بقرب صدوره الكثير من الأوجاع العابرة للأطلنطى، لتضيف إلى دول مدينة مثل مصر مزيدا من الأعباء لدى تسديد ديونها الخارجية القائمة، التى باتت مستحقة السداد بقيمة أعلى للدولار (لأن رفع أسعار الفائدة على الدولار تجعله أقوى نسبيا)، فضلا عن كون أكثر الأدوات شيوعا لسداد الديون القائمة هو مزيد من الاقتراض بالعملة الصعبة، والذى بالتأكيد سوف تكون فاتورته أكبر كثيرا بعد رفع أسعار الفائدة على الدولار، وما سوف يستتبعه من رفع متتالٍ لأسعار الفائدة على العملات الرئيسة الأخرى. كذلك تتأثر سريعا أسعار الذهب إذ تتراجع كنتيجة لتقويمها بدولار أقوى، وتتحرك نتيجة لذلك مليارات من الاستثمارات لتعيد تكوين احتياطيات الدول ومحافظ البنوك والشركات الكبرى. كما ترتفع تكلفة الاستيراد وتتضرر الدول ذات العجز المزمن فى موازين تجارتها، وتتراجع قيمة العملات الوطنية لتلك الدول... ويمكن أن نستهلك مساحة المقال كاملة لرصد بعض من تداعيات قرار منفرد فى إطار السياسة النقدية لدولة واحدة على مصائر مليارات البشر. لو أن الاقتصاد الأمريكى منغلق على ذاته لما اهتز العالم لذلك القرار على هذا النحو، لكن العالم الذى بات أقرب إلى قرية واحدة تحقق لها مزايا الحجم وكفاءة تخصيص الموارد بصورة كبيرة، تعلم أن تلك المزايا الإضافية تأتى بتكلفة إضافية أيضا.
      وكما أن الولايات المتحدة قد بدأت فى "أمركة" وتوطين سلاسل الإمداد لعدد من صناعاتها الحيوية منذ ولاية الرئيس "ترامب" ثم جاء الرئيس "بايدن" ليتحرك سريعا فى ذات الاتجاه خلال المائة يوم الأولى فى ولايته الحالية وتحديدا منذ فبراير 2021. فإن العديد من البلاد تشهد مستويات متفاوتة من الردة عن ركب الانفتاح على الاقتصادات الأخرى فى صورة تقييد للتجارة والاستثمار الأجنبى، بل وتقييد لحركة الأفراد للسيطرة على أزمة اللاجئين والتسلل عبر الحدود بذريعة الحد من انتشار فيروس كوفيدــ19!
       الوصفة الوقائية من تلك الجوائح الاقتصادية التى لا يتوقع أن يتعافى منها الاقتصاد العالمى فى أى وقت قريب، لا تختلف كثيرا عن الوصفة التقليدية لاحتواء انتشار الطواعين منذ قديم الأزل. وإذا كنا فى هذا الشهر الكريم نستزيد من استلهام العبر من القرآن والسنة، فعنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عنِ النَبِيِ ﷺ قَال: "إذَا سمِعْتُمْ الطَاعُونَ بِأَرْضٍ، فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإذَا وقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ فِيهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا" تلك الوصفة النبوية الواعية تنسحب على شئون الاقتصاد والأموال فى عصور تفشى الأمراض المالية عابرة الحدود. لكن الانكفاء على الذات وانشغال كل أمة باحتياجاتها لا يتيسر إلا لمن امتلك الحد الأدنى من الاكتفاء الذاتى من الأساسيات، إذ تتراجع أهمية الرفاهية وإشباع الحاجة إلى الكماليات فى زمن الأزمات. وقد افتتح نبى الله يوسف عليه السلام عزيز مصر برنامجه الاقتصادى لمواجهة السنين العجاف بكلمة "تزرعون".   
لا بديل إذن عن الإنتاج، ولن يكون الإنتاج كافيا لسد حاجات المستهلكين إلا إذا لعب فيه القطاع الخاص دورا حيويا. الدولة لن تستطيع أن تنتج بجهاز خدمى متخم بتراجع الإنتاجية والكفاءة، وقطاع أعمال يئن تحت ظروف تراكمت عليه عبر عقود، ولا أمل فى الخروج منها دون دعم حكومى جاد، كما إنه لا يملك المقومات التى تسمح له أن يصير بديلا عن القطاع الخاص، بل هو شريك مناسب فى أحسن الأحوال. وبينما ندفع عن بلادنا أزمات اقتصادية حادة آنية معظمها مستورد من الخارج، فإننا لا نملك "اليوم" ترف السنوات السبع التى امتلكها المصريون على عهد سيدنا يوسف عليه السلام، إذ تمكن من إدارة المخاطر (وهى احتمال وقوع الأزمات) خلال تلك الفترة، ثم أدار الأزمة بعدل وحسم بعدما جعله الملك على خزائن الأرض، عندها كانت إدارة الازمة أقل كلفة، حيث سبقها تخطيط للموارد وضوابط لإدارة المخاطر، ثم كان التمكين فى الأرض من نصيب أهل الكفاءة والأمانة، وكما قال تعالى على لسان ابنة نبيه شعيب (أو ابن أخى شعيب أو سيد ماء مدين فى روايات مختلفة): "إن خير من استأجرت القوى الأمين". ولأن ما لا يدرك كله لا يترك كله، فإذا كنا فى وقتنا الراهن بصدد أزمة اقتصادية طاحنة، فليس أقل من تمكين أهل الخبرة والمعرفة من القطاعات الاقتصادية فى كل دولة، ثم العمل بدأب شديد استعدادا لتطور الأزمة لتصبح أشد ضراوة فى السنوات القادمة، وهو احتمال تنبأ به الاقتصاديون ودلت عليه قرارات وتصريحات مسئولى الدول العظمى ومؤسسات التمويل الدولية.
     معدل الادخار المحلى لا يسمح لمصر بالاستغناء عن تدفقات الاستثمار الأجنبى لتمويل احتياجات النمو فى الناتج الإجمالى من السلع والخدمات، وتدفقات الاستثمار الأجنبى لا تسمح لمصر بالاستغناء عن القروض الأجنبية لسد الفجوة التمويلية، والفجوة التمويلية ستظل تتسع طالما استمر معدل النمو السكانى على حاله، واستمر الاعتماد على القروض لسد الالتزامات القائمة... ولا يقطع تلك الدائرة المفرغة إلا خطة محكمة لتوطين وتعميق الإنتاج المحلى الزراعى والصناعى بأقل قدر من الاعتماد على المدخلات والآلات المستوردة، وتشجيع القطاع الخاص بمختلف المحفزات للالتفات عن الاستثمار العقارى الريعى السهل، واكتناز الأموال فى الذهب وشهادات الاستثمار، إلى خوض تجارب إنتاجية تعزز من الاقتصاد الحقيقى وتحمل قيمة مضافة إلى المستهلك الوسيط والمستهلك النهائى.
      وإذا كان الإنتاج الزراعى والصناعى أقل جاذبية من الاستثمارات السهلة، لارتفاع تكلفته وتأخر وانخفاض العائد على الاستثمار فيه، وتعقيد متطلباته وتراخيصه وتعاملاته البيروقراطية، فإنه لا غنى عن قلب تلك المعادلة لصالح المستثمر الصناعى والزراعى ولو كان فى ذلك تراجع مؤقت فى الاستثمار العقارى الذى تتراجع أهميته أمام نقص مقومات الحياة الأساسية، علما بأنه وعلى الرغم من المبادرات الرئاسية المشكورة لتحسين ظروف التمويل العقارى، تظل ملايين العقارات المغلقة باهظة الثمن دليلا على استخدام تلك العقارات كمخزن للقيمة عوضا عن إتاحتها لإشباع حاجات أساسية للمأوى.
      من الممكن أن تلجأ الدولة إلى حلول مبتكرة لخلق طلب استثمارى كبير على مشروعات إنتاجية بعينها، من ذلك تقديم الحوافز والإعفاءات الضريبية، وتسهيل التراخيص الصناعية، وتقديم قروض ميسرة وبأقل فائدة متاحة لعدد من المشروعات التى يمكن أن تتاح عبر خريطة استثمارية تأخذ فى الاعتبار التنوع البيئى وتوزيع الموارد الطبيعية، وفرص تحسين التوزيع السكانى، وفرص التصدير، مع العمل على حماية الإنتاج الوطنى من غزو الواردات التى يمكن أن تكون مخرجا من الأزمات فى الأجل القصير، لكنها تعمل على مزاحمة الإنتاج المحلى وإزاحته أحيانا بحيث لا يمكن أن يعود مجددا فى المستقبل إذا لم يعد الاستيراد ممكنا لأسباب كثيرة أبرزها تقييد التجارة الخارجية بالدول المصدرة... كل ذلك يستدعى وجود وزارة للاقتصاد وهيئة نشطة للاستثمار وتقييم مستمر لإسهامات رءوس القطاعات والهيئات الاقتصادية والمالية على أسس علمية.
 
 
مدحت نافع   
خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
عن صحيفة الشروق   
 
 
علييف يتحدث عن حرب غزة

أحدث الأخبار

كاف يقرر اعتبار اتحاد الجزائر خاسرا 3-صفر بعد أزمة قميص نهضة بركان
18:00 26.04.2024
محام : أرمينيا تمارس استراتيجية التطهير العرقي
17:23 26.04.2024
أمريكا تستعد لسحب قواتها من تشاد والنيجر
17:00 26.04.2024
محام بمحكمة العدل : أرمينيا شردت ملايين الأذربيجانيين
16:31 26.04.2024
فريق إزالة الألغام يزور اغدام
16:03 26.04.2024
انتهاء الاجتماع الثنائي بين علييف وشولتز
14:52 26.04.2024
ما هي تفاصيل اتفاقية السلام المرتقبة بين أذربيجان وأرمينيا ؟ خبير سياسي يجيب
14:20 26.04.2024
علييف : أجندتنا الخضراء تتطور
13:15 26.04.2024
انطلاق اجتماع علييف مع شولتز
13:00 26.04.2024
علييف : تجهيزات استضافة أذربيجان لقمة المناخ مستمرة
12:32 26.04.2024
وضع اتحاد كرة القدم الإسباني تحت وصاية الحكومة
12:30 26.04.2024
مجموعة بريكس لن تتخلى عن إنشاء عملة موحدة
12:15 26.04.2024
علييف يلقي خطابًا خلال مشاركته في منتدي بطرسبرغ الخامس عشر للمناخ
12:11 26.04.2024
علييف يشارك في منتدي بطرسبورغ الخامس عشر للمناخ في ألمانيا
12:01 26.04.2024
ليبيا وإثيوبيا تبحثان عودة تعاونهما في مختلف المجالات
12:00 26.04.2024
طلاب في مواجهة حكومات الغرب... عندما تكشف غزة عورة الحرية
11:45 26.04.2024
رئيس بيلاروس يحذر من كارثة نووية حال تواصل الضغوط الغربية على روسيا
11:30 26.04.2024
حماس وفتح ستعقدان لقاء في بكين لمناقشة إنهاء الانقسام الداخلي
11:15 26.04.2024
انتشال نحو 392 جثمانا من مجمع ناصر الطبي بخان يونس خلال 5 أيام
11:00 26.04.2024
الولايات المتحدة تبدأ مناقشة انسحاب قواتها من النيجر
10:43 26.04.2024
اللحوم تلحق بالأسماك والدواجن في حملة المقاطعة المصرية
10:30 26.04.2024
للوصول إلي القمر ... منافسة شديدة بين الولايات المتحدة والصين – تحليلات
10:25 26.04.2024
الكشف عن مقابر جماعية في غزة يؤكد الحاجة لمحققين مستقلين
10:16 26.04.2024
العقوبات الأمريكية تحولت إلى حبل مشنقة حول رقبة واشنطن نفسها
10:00 26.04.2024
العفو الدولية: الحق في الاحتجاج هام للتحدث بحرية عما يحدث بغزة
09:45 26.04.2024
الإمارات تتعاون مع إندونيسيا للحد من تسرب النفايات إلى المحيطات والأنهار
09:30 26.04.2024
إقالة رئيس البرلمان البلغاري
09:15 26.04.2024
5 دول تخطط لقرار مشترك للاعتراف بدولة فلسطين
09:00 26.04.2024
حزب الله ينفي مقتل نصف قادته
17:00 25.04.2024
ماكرون يحذّر: "أوروبا تموت
16:20 25.04.2024
انفجار وتصاعد للدخان جرّاء هجوم على سفينة قرب عدن
16:00 25.04.2024
أرمينيا تتهم أذربيجان بزرع ألغام في قراباغ
15:46 25.04.2024
السعودية والكويت ترحبان بنتائج تقرير اللجنة المستقلة بشأن الأونروا
15:30 25.04.2024
الجيش الأمريكي يتصدى لهجوم حوثي في البحر الأحمر
15:15 25.04.2024
الرئيس الموريتاني يترشح لولاية رئاسية ثانية وأخيرة
15:00 25.04.2024
دافكوفا تتصدر الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية بمقدونيا الشمالية
14:45 25.04.2024
بين أفول نظام دولى وميلاد آخر.. سنوات صعبة
14:19 25.04.2024
وصول سفينة عسكرية تركية إلى ميناء مقديشو
14:00 25.04.2024
مركز تركي- عراقي ضد العمال الكردستاني
13:45 25.04.2024
استمرار الاكاذيب الأرمينية ضد أذربيجان في محكمة العدل الدولية
13:25 25.04.2024
جميع الأخبار