أراد عماد الدين النسيمي أن يذيع عبر أشعاره وكلماته لكل العالم سرّ حبه، لكن من حوله كانوا لا يرغبون في مثل تلك الأفكار التي ينبسط فيها الإنسان دون حدّ أو قيد وينطق بما يلقى في قلبه. رام النسيمي مثل غيره من الصوفية، وعلى رأسهم أستاذه الروحي منصور الحلاج، القرب من الله والاتصال به أكثر، وقد لبّى الله مرادهما فحصلا على الثراء السرمدي، فكلاهما لا يصبو إلى الدنيا وتبرها الفاني، نطق شعراً برغبته فقال: أيها الصوفي الجالس في خلوتك... اطلب من الندماء كأس خمرة حنيفية.. ولا تضع أيامك واغتنم الفرصة، لا أمان للدهر فعامله بما يستحق، لقد أصبح اسمي بين الناس اليوم: الصائم.. المتقي! ولكن غداً في يوم المحشر كيف أتخلّص من هذا العار الصوري؟ أيها المحبوب لا تستر وجهك عني، أنا الذي احترقتُ بحبك مائة مرة ولا يملك قلبي إلا أن ينطق بـ"خموش= صمت". كالشمع تكفيني شعلة من شوق وجهك حتى أجعلها قِبلة فراشتي وأحترق بها.
حينما سُئلت عن هذه الطريقة في التعذيب والقتل التي استحقها النسيمي الصوفي "لكفره، كما زعم الفقهاء"، أيهما الكافر، القاتل أم المقتول؟ قلتُ هذه صورة من صور شتى تفنّن فيها المسلمون قديماً، ومن يقرأ موسوعة العذاب لعبود الشالجي، سيكتشف طرائق لا إنسانية كثيرة تشير إلى غياب الرحمة في دنيا السياسة.. أغلب من قُتل بسيف الشرع هو في الحقيقة مقتول بسيف السياسة، لكن العامة لا تسمع وتعتقد إلا ما يعتقده الغالب، ولا تبحث وتدقق في أمر يؤرق عقلها..
ومن حيل الفقهاء في حالة النسيمي، أن واحداً منهم، كما تروي كتب التاريخ، وضع في طباق نعلٍ أهداه إلى النسيمي سورة "قل هو الله أحد" وأبلغ عنه! فاستخرجوا الورقة.. فسلّم الشيخ أمره لله وعلم أنه لا بد مقتول، وأعدم النسيمي.. أُعدم من قال: إنني شمس الحب على أفق الخلود. على وجهك تكشف الحقيقة اليوم الموعود. كلّ دلالات الأحرف تبرهن على ذلك. أنت الذي تُرى في وجهك مادة الأزل.. صورتُك هي صورة الرحمان البديع.
لقي نسيمي حتفه في مدينة حلب التي كانت تابعة لسلاطين المماليك آنذاك، فاجتمع العلماء وأعلنوا كفره، وأفتى المفتي بقتله، وقد قُتل شرّ قتلة وسُلخ حيّاً، ولموته قصة تستحق الذكر. قيل إن مفتي حلب كان من شهود قتله، وأعلن وقتها أن النسيمي نجس ويموت ميتة نجسة: "ولو وقعت نقطة من دمه على جارحة من جوارحي لقطعتها". وكان من عجيب الاتفاق أن أصاب المفتي رشاش من دم النسيمي في أثناء كشط جلده وهو يُعذّب، وسقطت نقطة من دم النسيمي على إصبع المفتي، فتنبّه إلى ذلك أحد الصوفية الحاضرين، فالتفت إلى المفتي وقال: لقد سقطت نقطة من دمه على إصبعك فاقطعها كما وعدت بذلك أيها المفتي، فذعر المفتي وقال: كلا، إنما قلت ذلك حينما كنت أمثّل لكم وليس في التمثيل من حرج، وثار النسيمي لكذب المفتي وخساسته، فما منعه هو التعذيب عن أن يقول هذين البيتين:
لا بدّ من قطع إصبع هذا الزاهد الذي زاغ عن الحقّ
انظر إلى ذلك العاشق المسكين الذي يمزّق إهابه من قمّة رأس إلى أخمص قدمه، فما بكى ولا شكا.
آمن النسيمي أن الله يعلن عن ذاته من خلال الإنسان، لذا كان ينصح مريديه أن ينحنوا للإنسان حتى لا يضلوا الطريق، الأرض والسماء عنده هما جوهر الحق، أنا الحق، ينطق بها الدف والناي! وإذا كان التصوف بحسب قول أبي سعيد ابن أبي الخير: أن تدع ما في فكرك، وأن تعطي ما في يدك، وأن تندفع بما يأتي عليك! فاندفع النسيمي يعبّر عن تجربته الروحية شعراً، فأخبر عن نفسه قائلاً: