لوحات العمارة الأندلسية... تأويل اختزالي للأثر العربي الإسلامي

ثقافة 18:00 29.08.2023
الظاهر أن المشترك الموضوعي بين تقاليد فنون اللوحة الأوربية، وتأويلات الفنانين الإسبان، لقصة الوجود العربي الإسلامي بالأندلس، تتجلى على نحو ساطع في اعتماد خلفية العمارة على نحو متواتر، ابتداءً من أواسط القرن السادس عشر، إبَّان هيمنة الأساليب النهضوية، وحتى موجة ما قبل الانطباعية، حيث مثلت معالم العمائر التاريخية الفخمة خلفية آسرة، في الاشتغال على موضوعات تراوح بين البورتريهات، وتصوير الحياة اليومية، وتشخيص الوقائع التاريخية.
 
واحتلت عمائر مسجد قرطبة وقصور النصريين في قلعة الحمراء بغرناطة، وصومعة لا خيرالدا والبرج الذهبي بإشبيلية والأسوار التاريخية المتبقية بمدن الجنوب الأندلسي، الحيز الأعظم في أغلب تلك اللوحات، مشكلة علامات بصرية مركزية في بيان انزياحات التأويل الفني الإسباني للقصة الموروثة. ولعل الطبعات الرائجة لكتاب الرحالة والدبلوماسي الأمريكي واشنطون إرفينغ حكايات الحمراء وما تضمنته من صور مطبوعة لأعمال فناني القرن التاسع عشر، ممن اشتغلوا على غرف وفناءات وحدائق هذا القصر الأسطوري، وامتداده العمراني تمثل النموذج الأكثر تداولاً لمظاهر هذا التأويل البصري.
 
وتدريجياً انزاحت العمائر من خلفيات اللوحات لتشغل بؤرة الأعمال، متراسلة مع انشغالات باروكية ورومانسية وانطباعية، متحولة من مجرد كتلة متشظية إلى قاعدة لبطولة اللون، بتنويعات لا محدودة لطبقات الضياء وتسجيمات المنظور. وتحتل أعمال الفنان خينارو بيريث بيّاميل (1807- 1854)، مساحة شديدة الدلالة في تنويعها لمقامات التعلق بالأثر العمراني الأندلسي، فما بين لوحة: منظران متخيلان لقصر الحمراء، ولوحة أطلال وطواحين في قلعة كواديرا، ترتصف مجموعة بالغة الثراء من الأعمال الزيتية والمائية عن البوابات العربية والأقواس والجدران والأفنية، تحمل عناوين من قبيل: من داخل مسجد قرطبة، البرج الذهبي في إشبيلية، السوق العربي، وورشة المغاربة في طليطلة، وتفاصيل من غرناطة، وغيرها، المعروضة في أغلبها ضمن مقتنيات الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة- سان فيرناندو بمدريد، وتطل منها جميعاً الهالة المتعاظمة للبناء العتيق والمخيف والملغز، الحاضن لكائنات متضائلة لعابرين ومتحلّقين محليين، حيث تنهض الكتل من سديم داكن، بتكوينات متداعية مكتنفة بالغبار، تمتزج فيها بقايا البياض واللون الطيني بصدأ الوقت، فتبدو مثقلة باغترابها عن محيط الأزياء والسحنات، بيد أنها هناك تصعق العين، وتعيد إنتاج أثرها الملغز.
 
 في لوحة بعنوان ورشة المغاربة في طليطلة، يقدم بيّاميل تأويلاً اختزالياً للأثر العربي الإسلامي الدارس، عبر لمحة عن العمارة المفتونة بالأقواس، وتكرار الموتيفات، على سطوح من جبس، في الجدران والأبواب ونوافذ الضوء. وفي تصميم مبني على طباقية المجسمات الزخرفية، يتناظر قوسان متجاوران، تطل من الأكبر فيهما دفقات الضوء على الداخل الظليل، حيث تتحلق ثلاث مجموعات، لرجال ودواب منغمرة في تواصلها الصامت، على أرضية المبنى القديم، بهيئات لا تلفت الانتباه إلا بانعكاس الضوء المطل من القوس الفارع على المجموعة المتضائلة في وسط. كل ما في تفاصيل اللوحة يوحي بهيمنة البناء، وطغيانه الحاجب لما حوله؛ من الأصفر الباهت في الجدران ذات الزخرفة المتآكلة، إلى الإبهار الضوئي المتدفق من فراغات القوس والنوافذ الخمس فوقه، مجاز لما يمكن تسميته بـ: الممتنع على المحو، هو هناك دوماً بتصدعاته وغباره، وبإشراق وحداته الزخرفية المتراسلة، في مواجهة الزمن، والوجود في غير محله، لمنح عراقة ممتدة في غير اللسان ولا المعتقد.
 
ومثلما هو ظاهر بجلاء فإن بيّاميل، كشأن عدد من معاصريه، ممن خرجوا عن دوائر مستنسخات الفن المسيحي، فإن عمارة الغازي القديم باتت موضوعاً محلّياً ينتمي إلى الشرق الإسباني، مخترقاً عقيدة العداء، ومشاعر الغلبة، بحيث يتجلى ممهوراً بغير قليل من الشغف الجمالي؛ فالجدران والأبراج والأسوار والأقواس وما يتخللها من شروخ ومقدمات تداعٍ، تعيد توجيه وعي العين بالمرئي فيما تبقى من الحكاية القديمة. إنه القصد الذي يومئ له قول موريس ميرلو بونتي: في أفق كل الرؤى أو ما يشبه الرؤى، يوجد العالم ذاته الذي أقطنه، العالم الطبيعي والتاريخي مع كل الآثار البشرية التي قُدَّ منها.
 
ومن صلب منحى إعادة امتلاك الأثر، يبرز أسلوب الانطباعيين الإسبان الأوائل، بوصفه النموذج المكتمل لهذا الشغف البصري، ففي لوحة بعنوان فناء قمارش لخواكين صورويا (1863- 1923)، تتخلى الجدران عن إهابها الحسي، وتكتسي لحاء بطبقات لونية نورانية، تحاكي طبقات الأديم الأرضي المتضاعف عبر الزمن، بقدر جدلها مع متواليات الحجب التي تعترض التقاط الرؤية للسطح الصلب والعريق، يكشف صورويا، فنان الضياء، المنتمي لحساسية ما بعد الرومانسية، في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، عن الاختراق الانطباعي الحاسم في تمثل اللون وجعله بؤرة العمل الفني في اللوحة، حين يولّد مع تحولات الضوء المتراكب، عبر ساعات النهار، كيمياء حسية تغلغل في الداخل المعتم والكئيب للسطوح الخرساء.
 
في هذا العمل المعروض بـ«متحف صوريا» بمدريد، تنهض المعادلة التأويلية للأثر الأندلسي على إيهام ملغز بما يهبه سطح الأقواس السبعة للنظر، في اللحظة التي تنعكس في بركة الفناء المفتوح لقاعة السفراء، تنمحي الزخرفات الجبسية في جنبات الأقواس وامتداداتها نحو السقف، وتتداخل في تشكيل إيقاعات البياض نحو الوردي الخافت، وفي العمق تتجاور تقويسة الضوء مع ظلها الداكن، بينما تنعكس في البركة الظلال المنطفئة وحدها، في مساحة الوردي المرقش بالبياض، وخضرة الحواف المزهرة. تبدو الأقواس المتناظرة في وضع تحاك ملتبس وكان الأصل يُردّ إلى النسخة المائية، ويتشرب ملامحها المركبة؛ صيغة من صيغ تناظر الانعكاس، حيث بالرغم من وجود كثير من الأشياء اللا متغيرة عند إجراء الانعكاسات، فهناك أيضاً أشياء عديدة ليست صامدة عند عكسها؛ وهو ما ينشأ في اشتغال صورويا بالتكييف الضوئي للمرجع المرئي، الذي يضحى متحولاً حتى قبل أن يخلق نظيره في صفحة المرايا المائية.
 
يُشخّصُ اشتغال خواكين صورويا في فناء قمارش، كما في عدد من لوحاته المتصلة بقصر الحمراء، رغبة الانزياح عن استعادة الأثر الأندلسي المبهر إلى خلق معادل يشتغل على منواله، كما تشير عبارة ماتيس في إحدى محاوراته لبيكاسو: إنني لا أحاول أن أصور الطبيعة، وإنما، على حد تعبير الصينيين، أعمل كما تعمل الطبيعة، وإنني أريد لتلك الموجة الداخلية - وهي طاقتي الإبداعية الحية - أن تكشف عن نفسها للمشاهد بصيغة لوحة تقليدية منتهكة؛ إن مسألة الاستقلالية في التأويل الفني تحضر هنا بالنظر إلى كونها تنتج معنى خاصاً، بصرف النظر عن المعنى الأصلي، إذ لا يمكن استيعاب القصد في هذا المقام باستعمال كلمات من قبيل تمثُّل أو محاكاة أو ترجمة أو إعادة تشكيل، فالتأويل الانطباعي أقرب ما يكون إلى خلق مجال حسي ودلالي مبتكر للمرجع، أو بالأحرى خلق نظير موازٍ له، يزيح الحجب عن اللامرئي في التكوين الجمالي للمعمار الكامل. إنه الإدراك الأكثر تجرداً من أحاسيس الغلبة أو التمجيد أو الامتلاك أو الاستعادة، أو حتى التسامح، هو تشوف إلى كشف المعنى، وخلق ما ينفذ أثره. 
 
 
 
 
سامي الحاج: "أذربيجان ستكون إحدى الدول الرائدة في العالم"

أحدث الأخبار

بيان صحفي: ديمقراطية من؟ برلمان الشباب من أجل أهداف التنمية المستدامة ينظم فعالية في مكتب الأمم المتحدة
16:15 10.10.2024
تركيا تعلن توقيف عميل للموساد
19:00 04.09.2024
منظمات الإغاثة تحذّر من أزمة جوع تاريخية في السودان
18:00 04.09.2024
ممر زانجازور يعكر صفو التحالف الروسي ــ الإيراني
17:30 04.09.2024
فيلادلفيا... رد مصري حاد يزيد الضغط على نتنياهو
17:00 04.09.2024
بزشكيان يتحدث عن حاجة إيران إلى جراحات كثيرة
15:00 04.09.2024
رئاسة كوب 29 تطلق منصة للشفافية لدعم الدول النامية في مواجهة تغير المناخ
14:00 04.09.2024
تضامن خليجي مع مصر ضد استفزازات إسرائيل
13:00 04.09.2024
استقالات بالجملة في أوكرانيا تمهيداً لتعديل وزاري واسع
12:00 04.09.2024
بوتين في منغوليا متحديًا الجنائية الدولية
11:00 04.09.2024
السيسي يزور تركيا في أول زيارة له منذ توليه الحكم في مصر
10:00 04.09.2024
طالبان تطمح إلى الحصول على معدات دفاعية روسية
20:30 03.09.2024
زعماء أفارقة إلى الصين بحثاً عن استثمارات
20:00 03.09.2024
أونروا: تطعيم 87 ألف طفل ضد شلل الأطفال في مخيمات وسط غزة
19:30 03.09.2024
اليابان تحتج بعد دخول سفينة صينية مياهها الإقليمية
19:00 03.09.2024
الشيخة حسينة من رئيسة وزراء بنغلادش الى معضلة دبلوماسية للهند
18:30 03.09.2024
السعودية وقبرص تبحثان تعزيز التعاون في النقل والخدمات اللوجيستية
18:00 03.09.2024
التضخم السنوي في تركيا يسجل تراجعاً كبيراً في أغسطس
17:00 03.09.2024
الأمم المتحدة ستواصل التعامل مع طالبان في أفغانستان
17:00 03.09.2024
فنزويلا تفرج عن عشرات المراهقين الذين اعتقلوا خلال مظاهرات
16:00 03.09.2024
لماذا تشكل مدينة بوكروفسك الأوكرانية أهمية استراتيجية؟
15:00 03.09.2024
ماليزيا ونيوزيلندا تدعوان إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة
14:00 03.09.2024
إصابة سفينتين تجاريتين بهجومين قبالة سواحل اليمن
13:00 03.09.2024
ارتفاع بورصات الخليج الرئيسية بفضل آمال خفض الفائدة
12:00 03.09.2024
اتفاقية شاملة للتعاون العسكري بين سوريا وإيران
11:00 03.09.2024
بوتاش التركية اتفقت مع شل على توريد الغاز المسال لمدة 10 سنوات
10:00 03.09.2024
مصر تؤكد لمجلس الأمن رفض السياسات الأحادية الإثيوبية حول سد النهضة
09:16 03.09.2024
روسيا تحيي ذكرى مرور 20 عاما على مجزرة بيسلان
19:00 02.09.2024
بولندا إحياء الذكرى 85 لاندلاع الحرب العالمية الثانية
18:00 02.09.2024
الجيش الصومالي يعلن سيطرته على منطقة هلجن الحدودية مع إثيوبيا
17:30 02.09.2024
إسرائيل تشهد إضراباً شاملاً تضامناً مع أهالي المحتجزين في غزة
17:00 02.09.2024
إيران ترفض تفتيشاً دولياً يتجاوز معاهدة حظر الانتشار
16:30 02.09.2024
قطر للطاقة تشيد مجمعا عالميا لإنتاج سماد اليوريا
16:00 02.09.2024
تأكيد سعودي- قطري على تعزيز العلاقات الثنائية نحو آفاق أرحب
15:30 02.09.2024
خمسة مشاريع ضمن طرق الحرير الجديدة في أفريقيا
15:00 02.09.2024
الرئيس المكسيكي يختتم ولايته بإصلاح قضائي يثير التوتر مع واشنطن
14:00 02.09.2024
التحقيق النهائي في مروحية رئيسي يؤكد سقوطها لسوء الأحوال الجوية
13:00 02.09.2024
الإمارات تهنئ أوزبكستان بذكرى استقلالها
12:00 02.09.2024
مصر ترفض تصريحات رئيس وزراء إثيوبيا بشأن سد النهضة
10:00 02.09.2024
أردوغان يؤكد مضي تركيا قدما في تطوير مشروع القبة الفولاذية
21:00 01.09.2024
جميع الأخبار