في 29 أغسطس الجاري تحل الذكرى الـ34 لإغلاق موقع سسميبالا تينسك، الذي أجرى فيه الاتحاد السوفياتي السابق تجاربه النووية، بين عامي 1949 و1989. وربما لم يخطر ببال أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة، حين اختاروا هذا اليوم -في الدورة الرابعة والستين، التي أقيمت عام 2009- كي يكون يوماً عالمياً لمناهضة التجارب النووية، رغبة في إحياء هذه الذكرى، ومواصلة العمل على وقف سباق التسلح النووي؛ أن التدمير الذي شهدته سهوب كازاخستان، بعدما نُفذ فيها ما يقارب ربع تجارب العالم النووية، وكذلك ما لحق بهيروشيما وناجازاكي نتيجة القنبلة النووية الأميركية؛ ليس كافياً بعد، لإبعاد شبح حرب نووية، تلوح في الأفق مع استمرار الغزو الروسي لأوكرانيا، والذي يشي بإصرار الإنسان على تكرار أخطائه، وإعادة إنتاج حماقاته.
هذا التاريخ من التدمير والتشويه في منطقة سسميبالا تينسك، استعادته رواية الكاتب الأوزبكي حميد إسماعيلوف (1954) Hamid Ismailov، "البحيرة الميتة"، التي صدرت أخيراً ترجمتها من الإنجليزية إلى العربية مريم خالد- دار العربي. حاول الكاتب إبراز معاناة من عاشوا في تلك البقعة، وعاصروا تلك التفجيرات، وجسّد معاناتهم التي كانت ثمناً لصناعة الرعب والخراب!
قبل انطلاقه في رحلته السردية، وعبر عتبات النص الأولى، مهَّد الكاتب لواقعية الأحداث، عبر توطئة أشار خلالها إلى أربعة عقود من التجارب النووية للاتحاد السوفيتي السابق في مدينة سسميبالا تينسك، التي شهدت نتيجة تلك التجارب، تفجيرات تعادل قوتها 2500 ضعف قوة قنبلة أمريكا التي استهدفت هيروشيما عام 1945.
وعلى رغم تنوع الأضرار المثبتة للإشعاع النووي على الإنسان، بين الإصابة بسرطان الدم، سرطان الغدة الدرقية، التشوهات الخلقية للأجنة، والخلل الجيني، فإن الكاتب اختار لشخصيته المحورية، مصير السجن في جسد طفولي، نتيجة التعرض لهذا الإشعاع. فالفتى الريفي يرزان، الذي يعيش بالقرب من موقع التجارب، يصعد إلى القطار المسافر عبر سهوب كازاخستان، كي يبيع المشروبات المحلية، ويعزف على الكمان ببراعة. يُفاجأ الراوي بأن ملامحه الطفولية، التي تشي بعمر لا يتجاوز الثانية عشرة، ملامح كاذبة، وأنه شاب بلغ من العمر سبعةً وعشرين سنة. ومن هذه الصدمة تبدأ رحلة السرد، التي امتزجت فيها الذاتية بالمركزية. فالراوي المسافر على متن القطار، يستخدم ضمير المتكلم في سرد أحداث رحلته، ويتحول إلى راوٍ عليم، يحكي قصة يرزان ضحية الإشعاع النووي. وهذا ما يثير تساؤلات عن أهداف الكاتب، في إخفاء صوت البطل، على رغم مأساته التي تحرك الأحداث، والتي تجعل صوته الذاتي خياراً أفضل للسرد. هذه الأهداف تتكشف في المحطات الأخيرة من الرحلة، التي يتراجع خلالها دور الشخصية المحورية، لمصلحة خيال الراوي، كي يملأ فجوات الحكاية، ويسد ثغراتها، على نحو يمكنه، من محاكمة الجاني ومحاكمة الضحية التي تتسامح مع جلادها!
الكاتب المولود في قيرغيزستان، انتقل إلى أوزبكستان عام 1992، ثم إلى المملكة المتحدة، وعمل في هيئة الإذاعة البريطانية، عمد إلى المزج بين أزمنة متنوعة للسرد. انطلق الراوي في سرد أفقي، يماثل رحلته على قطار يقطع سهوب كازاخستان. وعاد عبر تقنيات التذكر والاسترجاع إلى حقبة، تسبق رحلته بنحو 27 عاماً، هي عمر يرزان، ليتتبع حياة الفتى/ الرجل منذ طفولته، وحتى بلوغ رجولته الحبيسة في جسد طفل، بينما تتوقف الرحلة في محطات قصيرة، يذكّر فيها الراوي باللحظة الراهنة. وعمد أيضاً الى استخدام استباقات، ومفارقات زمنية، أشار من خلالها إلى زمن لاحق: اعتاد شاكن أن يتغيب عن ورديته لأسابيع، إذ كان يعمل في منطقة ما في السهوب، لكني سأذكر ذلك لاحقاً، كما سأذكر أيضاً التلفزيون الذي أحضره من المدينة (ص19). وقد أتاحت هذه التنويعة الزمنية، والانتقالات السلسة بين الحاضر، والماضي، والمستقبل، مزيداً من التشويق، ومن دينامية وحميمية السرد، من دون أن تنال من انسيابيته.
أما الفضاء المكاني فقد لعب دوراً رئيساً في البناء الروائي، إذ كان عنصراً أصيلاً من عناصر الحكاية، ومسؤولاً عن مأساة الشخوص. وهو ما برَّر اعتماد الكاتب تقنيات الوصف بكثافة، كي يتمكن من استعادة حقبة انقضت، وتجسيد فضاءات مكانية بعيدة، قد لا يعرفها القارئ. وكذلك لينقل هول التفجيرات، وأثرها المدمر على الطبيعة، وعلى سكان تلك المنطقة، مما أكسب الأحداث مظهر الحقيقة، وأسهم في توريط القارئ في عالم النص. وقد عزز إسماعيلوف غايته باستخدام لغة مشهدية، جسدت الأحداث فوق مسرح الخيال، ووضعت حتى مشاعر الشخوص، في مرمى العين... "وقتها تثغو الغنم بهيستيرية كأنها على وشك أن تُذبح، وتجري في جميع الاتجاهات، وتدفن الأبقار قرونها في الأرض، وينهق الحمار، ويتدحرج فوق التراب، ثم ترتج الأرض بقوة أسفله. ترتعش قدماه ثم تصل الرعشة إلى بقية أعضائه" (ص80).
رصد الكاتب المفردات المحلية في هذه البقعة النائية، فصوّر البرية الممتدة، السهوب الغنية، التنوع النباتي والحيواني وكذلك أسلوب حياة السكان. ومن مظاهره اعتياد رجالهم صيد الثعالب، وقيام النساء في منازلهن بتشذيب شعر الماعز، وغزل خيوط من شعره، عجن الخبز، عمل القشدة، بيع جلود الجمال، والسمك المجفف، وكرات اللبن الحامض. وتطرق إلى بعض مأكولاتهم، ومشروباتهم الشعبية: البرامس، والكوميس، والعيران. وعبر تجسيده بساطة حياة سكان تلك المنطقة، ورصده مفردات بيئتهم، وملامحها، أبرز حجم الغبن الواقع عليهم بتدمير بيئتهم، والفجوة الواسعة بين من يقطنون الهامش، ومن بلغوا من التقدم، مما منحهم القدرة على إبادة البشر. وبيّن حجم ما تعرض له هؤلاء المهمشون من استغلال في سباق للتسلح، لا ناقة لهم فيه، ولا جمل... لا يوجد شيء في هذا العالم يستحق أن تخوض حرباً من أجله. أنا رجل أعمل بالقطارات وأعرف أنها مفيدة، فهي تحمل الناس والبضائع، لكن ما الفائدة التي نجنيها من وراء قنابلك اللعينة؟ تحولت السهب إلى صحراء ولم نعد نرى اليرابيع والثعالب مثل ذي قبل" ص52.
كذلك عمد إسماعيلوف الممنوعة أعماله من النشر في بلده أوزبكستان حتى اليوم، لإبراز الخط الدعائي، الذي اتبعه السوفيات للتأثير على شعوبهم، وتبرير تجاربهم النووية، والتدمير الناجم عنها. وقد بين أثر هذه الدعاية، عبر استخدامه تقنية التكرار لعبارات أحد الشخوص الثانوية بالنص شاكن، التي وشت برغبة السوفيات المحمومة في اللحاق بالأميركيين، ومواكبتهم، والقضاء عليهم، والخوف من نشوب حرب عالمية ثالثة: "يصيح: إن الأمر أكبر من كونه مجرد قنبلة نووية، ولولا تلك القنابل لهلكنا جميعاً، ثم يخبرهم أن تلك الانفجارات تمهد الطريق أمام الشيوعية، ثم يختتم خطبته بجملته الشهيرة: علينا ألا نلحق بالأمريكيين فحسب، بل نتفوق عليهم ونهزمهم ص51.
ولجأ مرة أخرى إلى التقنية ذاتها، حين عمد إلى تكرار عبارة توقف عن النمو؛ لإبراز أثر تلك التجارب في إفساد حياة الناس، وعمق مأساة البطل التي اشتدت وطأتها مع تفوق حبيبته أيسولو طولاً، وفشل كل محاولات علاجه.
مثلما نقل الكاتب المفردات المحلية لتلك المنطقة شرق كازاخستان، أبرز خصوصيتها الثقافية، وتجذر الغناء والموسيقى، في وعي سكانها. واستدعى بعض أنواع الآلات الموسيقية الشعبية الشائعة، مثل الدوميرا. وطعّم السرد بكثير من أغنياتهم الشعبية، لا سيما تلك التي تنبذ الحروب. ورصد أساطيرهم، مثل أسطورة "جيسار، وتنجري"، ومعتقداتهم الشعبية، التي اصطبغت بالعجائبية، وأيضاً علاجاتهم التقليدية، التي تأثرت بثقافتهم، وتراثهم، وأساطيرهم، واعتقاداتهم الدينية...
عمد إسماعيلوف إلى نثر فجوات، في مواضع متفرقة من نسيجه السردي. وضمن عبرها دفع القارئ إلى ملئها، والمشاركة في لعبة السرد. وبدت هذه الفجوات في علاقة كانيشات بشاكن، وعلاقة كيبك بزوجة شاكن وابنته، وغموض هوية أبي يرزان، وضبابية المرة التي أدى الإشعاع فيها إلى توقف نمو البطل، وما إذا كان ما ألمَّ به ذلك نتيجة تعرض أبويه قبل إنجابه للإشعاع، أم نتيجة الانفجارات المتتالية، التي كانت طفولته جزءاً منها، أم لسباحته في مياه البحيرة الناتجة من الانفجارات النووية، أم لكل تلك الأسباب مجتمعة. كذلك لجأ إلى تبيان التماثل بين الفرقة التي وقعت بين يرزان وحبيبته أيسولو من جهة، وبين الشمس التي لا تجتمع والقمر من جهة أخرى، ومرر أسئلة وجودية حول الأمل، والفقد، ومعنى الحياة. واستطاع عبر أدواته السردية تجسيد كابوسية الواقع وسوداويته، وأثر انهيار الحلم. وأبرز حجم الجرم الذي اقترفه الساعون إلى التسلح النووي، في حق أولئك الذين يقطنون الهامش، ولا يعبأون بصراعات القوة، ولا النفوذ.