خطا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خطوة إضافية باتجاه مزيد من انخراط الغربيين في الحرب الأوكرانية؛ فبعد أن كرر في الأيام الأخيرة أنه لا يتعين استبعاد نشر قوات أرضية غربية في أوكرانيا، وتأكيده أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يجب ألا يربح الحرب؛ لأن ذلك سيشكل تهديداً وجودياً لفرنسا ولأمن أوروبا، وذهب أبعد من ذلك، خلال رحلة العودة، من برلين إلى باريس بعد مشاركته في قمة مثلث فيمار التي تضم فرنسا وألمانيا وبولندا، والتي خُصصت لتعزيز الدعم لأوكرانيا.
بداية، سعى ماكرون إلى الحط من أهمية روسيا عسكرياً واقتصادياً بقوله: نحن لا نواجه قوّة عظمى. روسيا قوّة متوسّطة تمتلك أسلحة نوويّة، لكنّ ناتجها المحلّي الإجمالي أقلّ كثيراً من الناتج المحلّي الإجمالي للأوروبيين، وأقلّ من الناتج المحلّي الإجمالي لألمانيا وفرنسا. والنتيجة المباشرة التي خلص إليها ماكرون هي أنه يجب علينا ألّا نستسلم للترهيب. ولأن الوضع كما وصفه، ولأن روسيا لم تتوقف عن التهديد بالرد على ما يقدمه الغرب من تسليح لأوكرانيا أو من فرض عقوبات اقتصادية ومالية ونفطية وغازية على وموسكو في حين أن التهديدات بقيت كلاماً فارغاً، فالنتيجة التي يستخلصها ماكرون تذهب باتجاه مزيد من الدعم النوعي الذي لم يكن يأتي على ذكره في السابق. فبعد عدم استبعاد إرسال قوات إلى أوكرانيا، حان الوقت لخطوة إضافية عبَّر عنها كالتالي: ربّما في مرحلة ما - أنا لا أريد ذلك ولن آخذ زمام المبادرة - يجب أن تكون هناك عمليّات على الأرض، أياً يكُن شكلها، لمواجهة القوّات الروسيّة. وأضاف: قوّة فرنسا تتمثّل في أنّنا نستطيع فعل ذلك.
وقد دأب ماكرون على التذكير بأمرين: الأول، أن الدعم المقدم لأوكرانيا لا يجعل من الغربيين أطرافاً مشاركة مباشرة في الحرب، والثاني، تحميل مسؤولية التصعيد للرئيس بوتين. غير أن الأخير الذي فاز بولاية خامسة ستبقيه في السلطة حتى عام 2030، سارع في الرد مباشرة على الرئيس الفرنسي. فقد قال في مؤتمر صحافي، مساء الأحد، عقب الإعلان عن فوزه في الانتخابات الرئاسية، إن نشر قوات غربية في أوكرانيا قد يقود العالم إلى شفا حرب عالمية ثالثة، لكنه أضاف أنه لا يعتقد أن أحداً له مصلحة في ذلك. ورغم أن ماكرون لم يتحدث مباشرة عن الحلف الأطلسي، فإن نشر أية قوات غربية في أوكرانيا، ستنظر إليها روسيا على أنها قوات أطلسية؛ إذ إن بريطانيا وكل دول الاتحاد الأوروبي باستثناء مالطا والنمسا وقبرص وآيرلندا أعضاء في حلف الناتو الذي انضمت إليه مؤخراً فنلندا والسويد.
ومنذ اندلاع الحرب في شهر فبراير 2022، حرص الطرفان الأطلسي والروسي على تجنب الاحتكاكات المباشرة لتفادي مواجهة بينهما؛ فروسيا حافظت على أن تبقى ضرباتها داخل أوكرانيا، وألا تطول أي عضو في الحلف، والغربيون تجنبوا توفير أية ذريعة لموسكو تمكنها من اتهامهم بالمشاركة في الحرب. لكن نشر قوات غربية ميدانياً سيغير الوضع من النقيض إلى النقيض مهما تكن التبريرات، علماً بأن المحللين العسكريين الغربيين يؤكدون وجود خبراء يساعدون القوات الأوكرانية على صعيد جمع المعلومات الاستخباراتية، وتعيين الأهداف، واستخدام الصواريخ بعيدة المدى. وقد اعترف المستشار الألماني أولاف شولتس بذلك مؤخراً لدى تبرير رفضه تزويد كييف بصواريخ طوروس الألمانية بعيدة المدى. ولم يتردد بوتين بالقول إن جنوداً من الأطلسي موجودون في أوكرانيا، وإنه جرى سماع اللغتين الفرنسية والإنجليزية في ساحة المعركة.
حتى وقت قريب، كانت بريطانيا تعد الجهة الأوروبية الأكثر انخراطاً في توفير المساعدات العسكرية والاقتصادية متعددة الأشكال لأوكرانيا؛ فقد كانت الأولى التي زودت كييف بصواريخ بعيدة المدى من طراز شادو، وأول من دعا لتزويدها بدبابات ثقيلة وبطائرات قتالية. بيد أن لندن سارعت إلى رفض دعوة ماكرون القاضية بعدم استبعاد إرسال قوات أرضية. وجدد وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون، في مقابلة مع صحيفة تسودويتشه تسايتونغ الألمانية، صدرت السبت، معارضة بلاده إرسال قوات غربية إلى أوكرانيا بما في ذلك لأغراض تدريبية. وقال الوزير البريطاني إن مهمات التدريب يجري تنفيذها بشكل أفضل خارج البلاد مضيفاً أنه يتعين على بريطانيا أن تتجنب توفير أهداف واضحة للرئيس الروسي. لكن كاميرون، رغم ذلك، اعترف بوجود عناصر بريطانية في أوكرانيا، وأن لندن أرسلت عدداً محدوداً من الأفراد لدعم القوات المسلحة الأوكرانية، لا سيما في مجال التدريب الطبي، مشدداً على استبعاد انتشارها على نطاق واسع.
مع كل تصريح للرئيس الفرنسي ورغم المعارضة التي تلقاها دعواته في الداخل والخارج، يتبين أنه يريد أن يكون الزعيم الغربي الأكثر التزاماً بدعم أوكرانيا، والذهاب في ذلك إلى أبعد الحدود. وليس من المستبعد، وفق مراقبين، أن يسعى ماكرون للاستفادة من الغياب الأمريكي في الوقت الحالي وحتى نهاية العام بسبب الانتخابات الرئاسية، ومن التردد الألماني رغم أن دعم برلين المالي والعسكري يزيد بأضعاف على ما قدمته فرنسا.
وحرص ماكرون، على نفي وجود أي اختلافات استراتيجية بين باريس وبرلين، وبينه وبين المستشار الألماني قائلاً: لم يكن هناك يوماً أيّ خلاف بيني وبين المستشار على الإطلاق. لدينا توافق كبير جداً في وجهات النظر حول الأهداف والوضع، لكن طريقة ترجمتها هي التي تختلف، مسلّطاً الضوء على ما سماها الثقافات الاستراتيجيّة في البلدين. وشرح ذلك بقوله إن ألمانيا لديها ثقافة استراتيجيّة من الحذر الشديد وعدم التدخّل، وهي تبقى على مسافة من السلاح النووي. وهذا نموذج مختلف تماماً عن نموذج فرنسا المجهّزة بالسلاح النووي، والتي حافظت على جيش محترف وعزّزته.
اللافت لدى الرئيس الفرنسي أنه يقول شيئاً بينما يقول وزراؤه شيئاً آخر؛ فوزيرا الخارجية والدفاع، ستيفان سيغورنيه وسيباستيان لوكورنو، حرصا أكثر على طمأنة الفرنسيين وشركاء فرنسا في الخارج، وأشارا إلى أن كلام ماكرون عن عدم استبعاد نشر قوات أرضية في أوكرانيا لم يكن يشير إلى قوات قتالية، بل إلى قوات تقوم بأعمال رديفة مثل إزالة الألغام، وتقديم الاستشارات، وتدريب الجنود الأوكرانيين على الأراضي الأوكرانية. وقال لوكورنو إنه كلما زادت حاجة أوكرانيا للتجنيد وزيادة عدد جيشها زادت الحاجة إلى التدريب المكثف.
والمشكلة أن تصريحات ماكرون تشي بعكس ذلك لأنه يقول، بصريح العبارة، إنه يجب أن تكون هناك عمليّات على الأرض، أياً يكُن شكلها. وتبيّن استطلاعات الرأي أن أكثرية الفرنسيين ترفض الموت من أجل أوكرانيا، بينما شركاء باريس غير متحمسين. ويبقى السؤال: هل يمكن لأطراف أوروبية أن تقبل نشر قواتها من غير موافقة أميركية؟ السؤال مطروح، والجواب في الأيام المقبلة.