منذ مطلع الألفيّة الثالثة ولغاية الآن، غالبًا ما تعود بي الذاكرة في مثل هذا اليوم من كلِّ عامٍ إلى الوقائع التي حالفني الحظّ في أن أكون شاهدَ عيانٍ عليها أمام مدخل الساحة الحمراء في وسط موسكو ليلة الحادي والثلاثين من كانون الأوّل عام 1999، ولا سيّما أنّ هذه الساحة التي قُدِّر لها أن تشكِّل حتّى الأمس القريب قِبلةً للشيوعيّين من مختلف أنحاء العالم، كانت تبدو في حينه مثلَ وسامِ مجدٍ معلَّقٍ على صدرِ مدينةٍ ينبض بالحنين إلى الماضي في حاضرٍ فقَدَ الكثير من مقوِّمات مجده، على رغم أنّ عشرات الآلاف من سكّان هذه المدينة النابضة بالحياة الذين خرجوا إلى الساحة للاحتفال بعيد رأس السنة، كانوا يتطلَّعون إلى الأمام وليس إلى الوراء، أملًا في أن تحمل لهم لحظة الانعطاف التاريخيّة بين القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين البشائر المرجوَّة لمستقبلٍ أكثر إشراقًا.
عند مدخل الساحة، ثمّة مربَّعٌ صغيرٌ على الأرض يبدأ منه قياس المسافات انطلاقًا من العاصمة الروسيّة نحو الشرق والغرب والشمال والجنوب، ما جعله يشكِّل في الأيّام الغابرة بوصلةَ اهتداءٍ، قبل أن يتحوَّل مع بداية عقد التسعينيّات من القرن العشرين إلى دوّامةٍ يتوحَّد التيه فيها تحت أقدام المتجوِّلين، ولو إلى حين، وذلك نظرًا لأنّ البصمات السلبيّة التي تركتها حركة ميخائيل غورباتشوف الإصلاحيّة على مختلف قطاعات الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة الروسيّة، ومن ثمّ تفاقم الأزمات الداخليّة بسبب الضعف الذي اتّسمت به فترة حكم الرئيس بوريس يلتسين، وكذلك بسبب الطريقة "الجيمسبونديّة" التي تعامل على أساسها المجتمع الغربيّ تحت تأثيرات عقليّة "الحرب الباردة" مع تداعيات تفكُّك الاتّحاد السوفييتيّ وإقفال ملفّ الحقبة الشيوعيّة في البلاد، كانت قد أصابت كبرياء المواطنين العاديّين هناك في الصميم.
وإذا كانت العادة قد جرت على أن يقوم المارّة برمْي قطعةِ نقودٍ معدنيّةٍ داخل ذلك المربَّع لكي تتحقَّق أمانيهم، فإنّ موسم الاشتهاءات والأماني الذي طلَّ في تلك الليلة مع إطلالة القرن الجديد كان لا بدَّ من أن يكون واعدًا جدًّا، سواءٌ على المستويات الشخصيّة البحتة أم على المستويات الوطنيّة العامّة، ولا سيّما إذا أخذنا في الاعتبار أنّ طقوس احترام الذات في القواميس الروسيّة تتلازم إلى حدِّ الانصهار مع مقوِّمات الوطنيّة الصافية.
ولعلّ أكثر ما أذكره من بين الحشود التي تجمَّعَت في تلك الليلة تحت مظلَّة ترقُّب اللحظات المقبلة، يتمثَّل في كيفيّة قيام إحدى السيّدات بإخراج قطعةِ نقودٍ من حقيبتها الصغيرة لترميها في مربَّع قياس المسافات، قبل أن تلتفتَ بحركةٍ إيمائيّةٍ جذَّابةٍ صوب جدران قصر الكرملين على جهة اليمين، لتُغمض عينيها نحو دقيقةٍ كاملةٍ، ولتفتحهما مجدَّدًا مع تنهيدةٍ عميقةٍ صادرةٍ من القلب، الأمر الذي دفعني إلى الاقتراب منها على الفور، سعيًا إلى إدراج هذه اللقطة المعبِّرة في تقريري التلفزيونيّ.
بادرتُ بسؤالها عن "أغلى الأمنيات التي ترغب في أن تتحقَّق في هذه الليلة"؟ فإذا بها تجيب بلغةٍ إنكليزيّةٍ رصينةٍ وكأنّها تسأل نفسها: "ماذا عليّ أن أقول؟ بين ماضي هذه المدينة العريقة وحاضرها، هناك تاريخٌ يُسطَّر للأجيال القادمة، تارّةً بالدمع، وتارّةً بالصمت والكبرياء.. ويمكنني الجزم بأنّ أبناء الجيل الجديد الذين فعلَت بهم البيروسترويكا فعلتها، هم في أمسّ الحاجة إلى يدٍ أنظف من يد الرجل الذي يجلس في الوقت الحاليّ على رأس السلطة خلف جدران هذا القصر، لترمي عنهم قطعةَ نقودٍ معدنيّةٍ في هذا المربَّع، على أملِ تجنيبهم المزيد من الضياع".
وأذكر أيضًا أنّ هذه السيّدة التي بدت في حوالي السادسة والعشرين من عمرها لم تكد تُكمِل حديثها أمام الكاميرا حتّى بدأتْ عمليّة العدّ العكسيّ بإيقاعٍ واحدٍ لاستقبال العام الجديد: "عشرة، تسعة، ثمانية، سبعة، ستّة، خمسة، أربعة، ثلاثة، اثنين، واحد"... ثمّ هتَف آلاف الناس وقتذاك بصوتٍ واحدٍ ونبضٍ واحدٍ: "تحيا روسيا".
لا شكّ في أنّ الهمّ الوطنيّ كان قد تجلّى خلال تلك الليلة بأبهى أشكاله، وبصورةٍ دفعت معظم الناس ربّما إلى الدعاء من أجل ظهور تلك "اليد النظيفة" التي تمنَّتها سيّدة مربَّع قياس المسافات عند مدخل الساحة الحمراء بشكلٍ أشبه بنبؤةٍ سرعان ما تحقّقت، لتجعل من عام 2000 عامًا غيرَ اعتياديٍّ في الروزنامة الروسيّة منذ ساعاته الأولى، ولا سيّما أنّ نشوة سكرة رأس السنة لم تكد تطير من رؤوس الناس حتّى جاءتهم الفكرة، ليجدوا أنّ الرجل الذي تسلَّم مقاليد الحكم في قصر الكرملين في اليوم الأوّل من أيّام ذلك العام، إثر استقالة الرئيس بوريس يلتسين المفاجئة، لم يكن اعتياديًّا أيضًا.
كان اسمه فلاديمير بوتين ولا يزال.. وحسبي أنّ الروس ما زالوا يتذكَّرون مثلي وقائع تلك الليلة البعيدة من عام 1999 كلَّ عامٍ، ولا سيّما أنّ لفضاء الذاكرة على الدوام سحرُ نجومٍ ونيازكَ تتألَّق بنورها سماوات الأيّام وما تحت أفلاكها، فيُصبح وحْي ما يمكن أن يُستحضَر من عَبَق الماضي سِفْرَ تكوين الحاضر والمستقبل، ولغةَ تَخاطبٍ بين ذهولِ المحتمَل الصعب وبهجةِ الممكن المتوهِّج، بحيث يتحرَّر فيها ظرف الزمان من قيود الأزمنة القاسية، ويُسقِط فيها ظرف المكان عن وجهه كلَّ أقنعة الأماكن المستحيلة، لتبقى صفحات روزنامة العمر في نهاية المطاف، على غرار الصفحة الروسيّة، مشرَّعةً أمام أحلى الاحتمالات... وكلّ عامٍ وأنتم بألفِ خير.