كاراباخ – أذربيجان – محمود سعد دياب
احتار الكثيرون في تفسير أسباب الانتصار الساحق الذي حققته أذربيجان على أرمينيا في الحرب الأخيرة، واستعادتها منطقة كاراباخ والمحافظات المحيطة بها، رغم أن المواجهات العسكرية التي نشبت بينهما ببداية النزاع مطلع التسعينيات كانت محسومة لصالح الأرمن، وبموجبها احتلت يريفان أراضي تمثل 20% من إجمالي مساحة أذربيجان المعترف بها دوليًا لمدة 30 سنة.
فبعدما استولى الأرمن على شوشا كان من السهل أن يستولوا في نهاية المطاف، على إقليم كراباخ، ولم يكتفوا بهذا، بل خلال عام ونصف تقريبا احتلوا مناطق محافظات “كالباجار” و”أغدام” و”جبرائيل” و”فضولي” و”قوبادلي” و”زانجيلان” الأذربيجانية. وبهذا، في غضون عامين، تم تهجير مليون شخص قسريًا من تلك الأراضي لمجرد كونهم أذربيجانيين.
لكن يبدو أن الحروب الأولى في أعقاب الاستقلال لم تكن خلالها أذربيجان مستعدة أو لديها جيش وعتاد قوي، وبالمقارنة بوضع الجيش الأذربيجاني الآن فإن الفارق قد يماثل الفارق بين السماء والأرض.. في هذا التقرير ترصد «النيل نيوز» من أرض الواقع في شوشا تفاصيل العمليات العسكرية التي تمت منذ عدة أشهر، وأسرار استعادة المدينة من قبضة الأرمن بعدما سيطروا عليها قرابة 30 سنة.
الحرب الأخيرة التي يطلق عليها «حرب الـ44 يومًا»، كانت نقطتها المفصلية والحاسمة، هي تحرير مدينة شوشا التي تعتبر قلب المنطقة ومصدر تاريخ أذربيجان وثقافتها، فضلًا عن كونها تتمتع بموقع جيواستراتيجي مهم، حيث تقع أعلى جبال ترتفع لمسافة أكثر من ألف متر فوق سطح البحر، وعسكريًا كان من يسيطر على شوشا يكون قد سيطر على باقي المناطق المحتلة بالتبعية.
كانت قد نشبت حرب بين أذربيجان وأرمينيا في سبتمبر الماضي، انتهت باتفاقية سلام تم توقيعها بين الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشنيان برعاية روسية وحضور الرئيس فلاديمير بوتين، وبموجب تلك الاتفاقية تقرر وقف إطلاق النار ثم استعادت أذربيجان المحافظات المحتلة تباعًا التي كانت تحت الاحتلال الأرميني، ومؤخرًا توصلت المفاوضات بين الأطراف الثلاثة، إلى تسليم أذربيجان الأسرى الأرمن مقابل منح أرمينيا خرائط الألغام في ثلاثة محافظات فقط هي أغدام وفضولي وزنجيلان، ومن المتوقع أن تتواصل المفاوضات لاستكمال تسليم باقي الخرائط.
«النيل نيوز» ذهبت إلى مدينة شوشا وعلمت من مصادرها هناك أن الجيش الأذربيجاني استخدم القوات الخاصة في التسلل عبر الوديان الضيقة وسط جبال شوشا، لكي يسيطروا على أعلى نقطة حصينة للجيش الأرميني. تقول مصادرنا إن أفراد القوات الخاصة الأذربيجانية ساروا عبر الدروب التي درسوها جيدًا حتى وصلوا لتلك النقطة الحصينة، وبدأوا تبادل إطلاق النار مع القوات الأرمينية المرابضة أعلى الجبل، وعكس المتعارف عليه عسكريًا بأن الغلبة تكون لمن يقاتل من منطقة أعلى، نجحت القوات الخاصة في إجبار الجنود الأرمن على التقهقر حتى استعادة تلك النقطة الحصينة، والتي كانت مفتاح استعادة المدينة كلها.
وبعد استعادة شوشا، وافقت أرمينيا على الجلوس إلى مائدة المفاوضات، وتم توقيع الاتفاقية الثلاثية برعاية روسية، وبموجبها استعادت أذربيجان باقي المناطق المحتلة تباعًا، على أن تضع روسيا قوات تابعة لها لحفظ السلام على المناطق الحدودية بين الجانبين لمدة خمس سنوات.
«شوشا.. أنتي حرة».. هكذا كان رد فعل علي حازييف مدير العلاقات الدولية بلجنة شئون الأديان في أذربيجان، والذي كان مرافقًا لنا بمجرد سيارتنا مدينة شوشا، فلم يكن يحلم أي مواطن أذربيجاني أن تستعيد بلاده مدينة شوشا في أي يوم من الأيام، فهي تمثل أهمية كبيرة بالنسبة لكل مواطن في أذربيجان، كونها منبع الثقافة والتاريخ ليس لمنطقة كارباخ فحسب ولكن لكل أذربيجان ومهد علماء وأدباء وشعراء أثروا العالم الإسلامي بإنتاجهم.
ويقول حازييف، إن رئيس البلاد إلهام علييف أعلن مدينة شوشا عاصمة للثقافة الأذربيجانية بموجب قرار رئاسي، وأنها استضافت مهرجان “خاري بلبل” الموسيقي في 12 و13 مايو 2021، واستقبلت بعد قرابة عامًا ضيوفها من جديد كعاصمة ثقافية مثلما كانت في الماضي، وحضر المهرجان الرئيس إلهام علييف ونائبه الأول مهربان علييفا ولفيف من الشخصيات العامة والسياسيين والفنانين. وقتها –وفقًا لحازييف- قال رئيس الدولة في كلمته إن “مهرجان خاري بلبل الذي يُقام هذا العام لأول مرة بعد سنوات طويلة، مخصص لذكرى الشهداء. إننا مدينون لجنودنا الأبطال وللشعب الأذربيجاني الذي اتحد سويًا، لقد حقق الشعب الأذربيجاني هذا الانتصار. وهو انتصار لنا جميعًا”.
إن شوشا فضلًا عن كونها منطقة جيواستراتيجية مهمة، إلا أنها مدينة سياحية خلابة ومنتجع صحي مهم على مرة العصور، وتكافح حكومة أذربيجان لإعادتها للحياة مرة أخرى وإكسابها بريقها ورونقها القديم، ولهذا تقرير آخر.