من يملك حق طبع الدولار يستطيع سرقة مدخرات العالم كله. هناك من يسرقنا ليمول إنفاقه الهائل على تكاليف البقاء في القمة.
حسم الهيمنة على النطاق المحلي؛ وهو الذي تجلى في حالة أمريكا في ثلاث مسائل: إبادة السكان الأصليين بالبارود والأمراض، ثم طرد البريطانيين، والحرب الأهلية التي قادها إبراهام لينكولن لتوحيد بلاده لمّا عارض الجنوب الأمريكي (المحافظ والزراعي) مشروع إلغاء الرق. كان لينكولن يريد عاملا لديه أحلام، أما العبد فبلا أحلام، ولذا لا يصلح لتأثيث العالم الجديد. وهذا كان جوهر مشروع الشمال الصناعي، الذي حسم رؤيته بتكلفة نحو نصف مليون أمريكي. ثم لاحقا الخطوة الثانية: حسم الهيمنة على النطاق الإقليمي؛ الذي تجلى بوضوح في قانون "مونرو" عام 1823، حاسما نفوذ أمريكا على نصف الكرة الغربي، ومتدخلا بالقوة لمنع أي دولة منافسة من الوجود في إقليمها. ومع أن أوروبا سخرت منه في البداية، فإنه فيما بعد، ومع رئاسة فرانكلين روزفلت للولايات المتحدة، أصبح حقيقة واقعية. أما الخطوة الثالثة فهي: حسم الهيمنة على النطاق العالمي؛ وذلك حين أخذت الولايات المتحدة بالتنافس على ترتيب عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية (1941-1991)".
لقد قاتلت أمريكا بكل قدراتها في القرن العشرين لحسم النطاق العالمي، وكانت التسعينيات تتويجا لهذا الحسم، أنه بدلا من النمط القديم للإمبراطوريات، القائم على الاستعمار المباشر وبناء المستعمرات المكلفة، أخذت في بناء نظام قائم على المؤسسات والاتفاقيات التي تضمن المحافظة على نفوذها، وهذه كانت لا تقل أهمية عن قواعدها العسكرية التي نشرتها في كل مكان في العالم حتى بلغت 700 قاعدة. بل إن بعضهما يكمل بعضا، وكأن المؤسسات استمرار للحرب بوسائل أخرى، فالأمم المتحدة ضمنت لأميركا شكل الإجماع على قيادتها للنظام العالمي، أما البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فكانا من أدواتها في التأكد من إعادة هيكلة الأسواق بما يضمن بقاءها ضمن نطاقها الاقتصادي، ويغري حلفاءها بالبقاء قريبين منها، محتاجين إليها على الدوام، وبنفس الطريقة التي عملت بها على خنق محيط الاتحاد السوفيتي، فإنها اليوم تعطل على الصين حسم إقليمها، بالتحالف مع تايوان والهند وغيرها.
هذا هو نموذج أمريكا، الجمع بين الإخضاع عبر التحالفات، والتدخلات العسكرية المباشرة، فحيث لم تنفع الجزرة كانت تتدخل العصا. خذ مثلا تدخلها في قلب حكومة مصدق في إيران، ومنعها لصعود الأحزاب الشيوعية في جواتيمالا، وجمهورية الدومينكان، والبرازيل، وتشيلي، وبنما، والحرب في كوريا، ثم حربها التي خرجت منها على وقع ضربات فيت كونغ في فيتنام.
ولك أن تتخيل، أن البلد الذي يسيطر على العالم، يشكّل 5% من حجم السكان. وأنه كذلك، منذ 250 سنة من عمره لم يعش إلا 30 سنة منها في سلام، فهو على الدوام، إما في معركة، أو أنه يعد لأخرى. ليس سهلا أن تقود العالم بدولة كهذه. الأمريكان أنفقوا 916 مليار دولار في العام المنصرم على الدفاع العسكري، وهي النسبة العليا في العالم، وتزيد على ما تنفقه بقية القوى العظمى على الدفاع مجتمعة. هذه نقطة قوة، صحيح، ولكنها في الوقت نفسه نقطة ضعف. كان بول كيندي الذي فجر دراسات تراجع أمريكا قد ذهب إلى أن الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ، ابتداءً من الرومانية وحتى البريطانية، تسقط تحت وطأة التكلفة الاقتصادية العالية نتيجة إنفاقها العسكري (مشكلة التمدد الزائد Overstrech)، وعلينا أن نلاحظ كما لاحظ فيرجسون أن دين الولايات المتحدة تجاوز 110% من دخلها القومي، وهذا أعلى مما عرفته بريطانيا في نهاياتها".
لقد انفردت أمريكا في التسعينيات؛ موسعة الناتو شرقا، ودافعة معظم العالم لتبني إجماع واشنطن، وكتب العديد من الكتاب شتما لفوكوياما عندما أعلن نهاية التاريخ. النموذج الليبرالي انتصر في السياسية والاقتصاد، لقد أوسع الجميع هذا النموذج شتما، لكن كلهم في قرارة أنفسهم كانوا يصدقونه، مشاعرهم تصدقه، والأهم سلوكهم اليومي يصدقه.
ثمة تناقضات حقيقية تزداد بين النمو والتوزيع لهذا النمو، بين الإنتاج السلعي (الذي يؤسس اقتصادًا حقيقيًّا) والاقتصاد المالي، وهذا الأخير يشكل معظم شكل الاقتصاد، ولا تخفى عليك هشاشته، خصوصا وقت الأزمات والحروب، إضافة إلى الممكنات المدمرة التي تحملها فكرة تنمية المال من المال.
تستورد أمريكا من نفط الخليج حوالي 5%، في حين كانت تستورد 20% عام 2012، فحاجتها إلى النفط الخليجي اليوم لم تعد مثلما كانت في السابق، أما الصين فتستورد 40% من نفط الخليج. مع ذلك، ما زال الخليج منطقة نفوذ أمريكي، ومسؤولية ضبط إيقاع وأمن الإنتاج جعلته من مسؤوليتها، لأنه في النهاية سيؤثر في العالم كله، وفكرة أن هذا حدث بعيدا عنا، أعطت انطباعا لأصدقائها وأعدائها على السواء، بأن تراجعا ما قد حدث. لاحقًا، سمعنا عن تقارب سعودي إيراني برعاية صينية!
وفي السياق ذاته عام 1938، كان جنرالات هتلر مشغولين بخطة جرين المعدة للهجوم على تشيكوسلوفاكيا، ولمّا لم يجدوا ما يردعهم؛ نفّذوها. كان تجاوزا لقواعد اللعبة وقتها، ومؤشرا حقيقيا على قوة هتلر وتراجع قوة خصومه، وحين سئل نيفيل تشامبرلين، رئيس وزراء بريطانيا، عن ذلك، قال: "لقد حدث هذا في مكان بعيد عنا". لكن هتلر قرأ ذلك جيدا، ممّا أغراه بالاستمرار. لذا، فإن مقدمات الحرب العالمية الثانية بدأت مع القرارات المترددة التي سبقتها في وضع حد لهتلر وتصاعد قوته.
لقد انشغلت أمريكا بحروب غير إستراتيجية، أنفقت فيها الكثير من أموالها وسمعتها، وغذت خلالها نزعات تصاعدية في عدائها، ولكن أيضا أتاحت المجال لصعود الصين وروسيا في ظل هذا الانشغال غير المجدي. أما الصين فواصلت نموها بصمت، كما سعت روسيا لحسم إقليمها بمهاجمة جورجيا ثم القرم ثم أوكرانيا. في المحصلة، خرجت أمريكا من أفغانستان تاركة حكمها لطالبان، وخرجت من العراق تاركة حكمها لإيران، بل فتحت المنطقة أمام الإيرانيين بإسقاط نظام صدام حسين، ولم تحقق أي هدف إستراتيجي من حروبها آخر 25 سنة.
"ثم إنك تسألني عن الفكرة التي تملكها الصين للعالم"، قلت له وقد كان يظن أن مجادلته عنها مفروغ منها عندي. "حسنا، إنك تنسى أننا في عصر لم يعد أحد فيه يقدم أي فكرة، لا يتعلق الموضوع بالصين وحدها، إن النظام العالمي برمته، بمن هم على هرمه وبمن يتنافسون على هرمه، لم يعد لديهم ما يقدمونه قيميًّا، طبعًا إن افترضنا أنهم كانت لديهم قيم في السابق. الفكرة ليست في انتظار من سينوب أميركا، بل في أن الشكل الذي سيأخذه الصراع على القمة سيرخي قبضة السيطرة على منطقتنا، وربما يتيح لنا متنفسا في صعود السلم الذي يخصنا.
التجارب في النهاية تنهار غالبا ليس نتيجة قلة الثقة بالنفس، بل بفائض من هذه الثقة. يمكن للتراجع أن يحدث دون أن ينتبه أكثر الناس عناية به، ولا يعني القدرة على تجاوز الأزمات -أكثر من مرة- أن صفتك الخالدة هي تجاوز الأزمات، بل قد تمكر بك الأزمات من هذه النقطة تحديدا؛ نقطة الثقة الكاملة بالقدرة على حلها. ربما لم تدرك بريطانيا أنها لم تعد قوة عظمى إلا بعد فشلها في العدوان الثلاثي على مصر، وربما فوجئت بأن قوى أخرى أصبحت أقوى منها، وأنها لكي تحترم سنها عليها أن تفسح المجال لصعود الآخرين، وأن تتبع حماس الشباب حتى لا يدوسها هذا الشباب القادم بقوة.
الديمقراطية تنظم الخلافات التي على سطح الحياة السياسية، أما ثوابت الأمة فإنها تُحسم مع المؤسسين والأوائل. مع الوقت، تتوالى التقاليد المؤسساتية أو ما يعرف بالدولة العميقة على ترسيخ ثوابت الأمة وحماية جوهرها، وتشمل هذه الحماية حمايتها من الديمقراطية نفسها، من جهل الطارئين أو جنوح الشاردين في أحلامهم عن إمكانية التغيير الجذري من خلال صناديق الاقتراع. عندما توضع الثوابت محل استفتاء وينقسم الناس عليها، لا تعود الديمقراطية قادرة على التعامل معها، مع مهمة بهذا الحجم، وهذه هي المشكلة الكبرى التي عانينا منها خلال ثورات الربيع العربي؛ ذهبنا نحسم ثوابت الأمة عبر صناديق الاقتراع!.
تحولت إسرائيل من مشروع يحمي مصالح أمريكا إلى مشروع بحاجة إلى حمايتها، ولقد أنفقت أمريكا على إسرائيل منذ قيامها 260 مليار دولار. وكان طوفان الأقصى كاشفا عن هشاشة هذا المشروع وعجزه عن القيام بالدور المنوط به. أنت أمام حليف ضعيف ومُحرِج ومكلف لك، ومع ذلك يقف أعضاء الكونغرس يصفقون له عشرات المرات، على وقع التعطش إلى الدم وغياب العقل والقيم. لقد احتاجت أمريكا إلى تعجيل دمج إسرائيل بالمنطقة، لكي تتجه شرقا وتركز على التحدي الأهم وهو صعود الصين، لكن إسرائيل تشدها مجددا في حروب غير إستراتيجية كما فعلت سابقا طائرة برج التجارة. لكن كل خطوة تفعلها هي متأخرة عن وقتها، وكما شخّص تقرير لجنة إستراتيجية الدفاع الوطني، فإن خطة بايدن للأمن لعام 2022، متخلفة عن حجم الأخطار والمهام التي تحيط بها. إن مشروع التطبيع بالطريقة التي صممته أمريكا بها، وفشلها في رعاية عملية ولو شكلية للدولة الفلسطينية، عمّقا استفزاز المقاومة وعجّلا بمعركة الطوفان، وأغرقا أمريكا مجددا بقضايا بعيدة عن أولوياتها، ومن طائرة التجارة حتى الطوفان، تحول الدور الأمريكي من ربان العالم الحر إلى رجل إطفاء حرائقه، معتمدا منهجية محاصرة الحريق بالحريق.
إن رصد تراجع الدور الأمريكي ليس موضوعا أكاديميا، هو أهم من ذلك بكثير. لدينا اليوم فرصة تاريخية لاستعادة دورنا، ومع أني مدرك تماما لحجم قوتها، وضعفنا، فإنني مدرك أيضا كوامن الانهيار فيها، وكوامن النهوض فينا. قبضتها تضعف، والفوضى قادمة لا محالة، الحرب التي لا يريدها أحد قد تبدأ في أي لحظة، بأي خطأ كان، وحجم الصدفة في هذه الحالات مؤثر جدا، ومنطقتنا عانت كثيرا من هذا النظام العالمي وظلمه. ولطالما كانت أراضينا وأجساد أهلينا مكانا لحل تناقضات القوى الكبرى، بعيدا عن أراضيها، وبقدر ما ترك هذا جروحا فينا، فإنه منحنا كنوزا مهمة يمكننا الاتكاء عليها: الخبرة اللازمة لفهم ما سيأتي، والرغبة العارمة في أداء دور فيه.