لطالما أثار تعرض القوات الأمريكية في الخارج لهجمات جدلا داخل الولايات المتحدة حول جدوى وجود تلك القوات هناك من الأساس، وأدى إلى تعالي الأصوات التي تطالب بسحبها، سواء كانت تلك الأصوات داخل الولايات المتحدة أو في البلدان التي توجد فيها قواعد للجنود الأمريكيين.
وهذا هو بالضبط ما حدث في الأشهر التي أعقبت الهجوم الذي نفذته حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر وما أعقبه من حرب ضارية في قطاع غزة. فقد نفذت جماعات مسلحة متحالفة مع إيران عشرات الهجمات ضد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط، من بينها هجوم أدى إلى مقتل ثلاثة جنود أمريكيين في قاعدة أمريكية بالأردن بالقرب مع الحدود السورية. وجاء الرد الأمريكي بشن ضربات جوية على أهداف في العراق وسوريا قالت واشنطن إنها تابعة لميليشيات ضالعة في ذلك الهجوم.
الشهر الماضي، بدأت واشنطن وبغداد إجراء محادثات قد تفضي إلى سحب القوات الأمريكية من العراق، وذكرت مجلة فورين بوليسي مؤخرا أن بعض العناصر في إدارة بايدن ربما يدرسون سحب القوات من سوريا أيضا.
قبل نحو 10 أعوام، تمكن ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية من السيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي العراقية والسورية تعادل وفق بعض التقديرات مساحة بريطانيا، وبلغ إجمالي عدد سكان تلك المناطق حوالي 10 مليون نسمة. وفي سبتمبر عام 2014، تشكل تحالف دولي تتزعمه الولايات المتحدة بهدف هزيمة التنظيم. ونفذ التحالف غارات جوية ضد تنظيم الدولة في سوريا، ودعمت القوات الأمريكية قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، وهي جماعة مسلحة تضم بالأساس ميليشيا "وحدات حماية الشعب" الكردية، والتي لعبت دورا حيويا في دحر تنظيم الدولة والإشراف على معسكرات احتجاز تضم آلاف الأشخاص الذين يشتبه في كونهم مقاتلين تابعين للتنظيم. كما تحدثت تقارير عن أن الولايات المتحدة سلحت ودربت عناصر من قوات المعارضة السورية. وفضلا عن معارضة الحكومة السورية للدور الأمريكي في البلاد، فإن روسيا، الداعم الأساسي لحكومة الرئيس بشار الأسد، طالبت هي الأخرى برحيل القوات الأمريكية. كما عارضت أنقرة الدعم الأمريكي لقسد التي تعدها فرعا لحزب العمال الكردستاني المصنف جماعة إرهابية من قبل تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وقد تفاوت عدد القوات الأمريكية في سوريا منذ ذلك الحين، وبلغ نحو 2000 جندي في نهاية عام 2017 وفقا لوزارة الدفاع الأمريكية. وأعلن الرئيس السابق دونالد ترامب سحب معظم الجنود الأمريكيين من شمال شرق سوريا في عام 2019، مع الإبقاء على بعضهم لتأمين المنشآت النفطية. وقال المسؤولون الأمريكيون آنذاك إن هدف الانسحاب هو تفادي الانخراط في "صراع دموي"، بعد أن أعلنت تركيا أنها ستنفذ عملية عسكرية في شمال سوريا، وهو ما اعتبره متحدث باسم قسد "طعنة في الظهر" من جانب حليفتهم واشنطن. وحاليا، لا تزال هناك بعض القوات الأمريكية في المناطق الخاضعة لسيطرة قسد في شمال شرق سوريا، ومن بينها محافظتا الحسكة والرقة. كما تسيطر الولايات المتحدة منذ عام 2016 على قاعدة التنف الموجودة في منطقة نائية عند المثلث الحدودي العراقي الأردني في محافظة حمص. ووفقا للبنتاغون، يبلغ عدد القوات الأمريكية في سوريا حاليا نحو 900 جندي.
مؤخرا، أدلت البعثة السورية لدى الأمم المتحدة بتصريحات لمجلة نيوزويك كررت فيها مطالبة دمشق برحيل القوات الأمريكية، واصفة وجودها على الأراضي السورية بأنه غير قانوني وغير شرعي، ومشددة على أن التطورات الحالية في المنطقة ينبغي أن تشكل فرصة للولايات المتحدة لتصحيح سياستها الخاطئة التي لم تؤد سوى إلى زعزعة الأمن والاستقرار في سوريا والمنطقة بشكل عام. وبعد مرور أسبوع على تصريحات البعثة السورية، قال متحدث باسم الخارجية الأمريكية للمجلة إن وجود القوات الأمريكية متجذر في القانون الأمريكي والقانون الدولي، شارحا أنه فيما يتعلق بالقانون المحلي، فإن الأنشطة الرامية إلى هزيمة تنظيم الدولة مسموح بها بموجب تفويض استخدام القوة العسكرية لعام 2001.
وفيما يتعلق بالقانون الدولي، أشار المتحدث إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تمنح الدول حق الدفاع عن نفسها، مضيفا أن الولايات المتحدة تستخدم القوة في سوريا ضد تنظيم الدولة وتقدم الدعم للجماعات المعارضة التي تحارب التنظيم في إطار دفاع العراق وغيره من الدول عن نفسه ودفاع الولايات المتحدة عن نفسها.
القوات الأمريكية الموجود في سوريا ظلت محل جدل بين المشرعين والساسة الأمريكيين حتى قبل اندلاع الصراع الأخير في غزة، ما بين مطالب بانسحاب فوري لها ومعارض لذلك. في مارس العام الماضي، لقي مشروع قرار تقدم به العضو الجمهوري مات غيتس يطالب بسحب تلك القوات هزيمة ساحقة في مجلس النواب بالكونغرس الأمريكي. المصالح الأمريكية في سوريا لا تقتصر على ضمان عدم عودة خلافة تنظيم الدولة. فسوريا تُعتبر مسرحا لصراعات بين قوى خارجية، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا، إسرائيل وإيران، روسيا وتركيا، وتركيا والأكراد.
كثير ممن يعارضون انسحاب القوات الأميركية من سوريا يقولون إنهم يدركون أن تلك القوات لا يمكن أن تبقى هناك إلى الأبد، وينبغي إيجاد بديل يضمن عدم عودة التنظيم، ويضمن سلامة الأكراد المتحالفين مع واشنطن. ويرى مراقبون أن إدارة الرئيس جو بايدن تخشى من تكرار سيناريو الانسحاب من أفغانستان الذي أفضى إلى عودة حركة طالبان إلى سدة الحكم. لكن وسط تطورات الحرب في غزة، واحتمال عودة ترامب إلى البيت الأبيض من جديد، تبقي كل الاحتمالات مطروحة.