اقتصر قديما التعامل بين الأفراد على التواصل الكلامي المباشر لتبادل المعارف والخبرات وحتى حفظنها ضمن الذاكرة المروية على شكل قصص وأحاديث، فقد مثلت المشافهة آلية سلسة وفعالة للتواصل كونها لا تحتاج إلى أي وسيط أو مجهود بدني لحفظها وترسيخها، لكن الوضع تغير بشكل جذري مع الزمن، فقد تزايدت أعداد الناس وصاروا يسافرون من مكان إلى آخر، أيضا تراجعت المجتمعات الصغيرة المنعزلة مفسحة المجال لتشكل مجتمعات كبرى أشمل وأكثر تمثيلا، هذا كله ساهم في تزايد المعرفة التي يتم توليدها بما أثرى الزاد الفكري الإنساني عموما.
من هنا كانت الضرورة ملحة لتدوين ما ينتجه الفكر الإنساني ورصد التفاعلات بين الأفراد سعيا لصيانة وحفظ هذا الزاد من التلف والاندثار حتى لا تنقرض معه ملامح بارزة من الهوية البشرية والانتاج المعرفي الثمين، ومن زاوية أخرى كان حلم الإنسان في تحقيق الخلود خارج أطر الزمن والمكان دائما هاجسا حاضرا ومقترنا بالوجود الإنساني عموما، وإشباعا لهذا التوق وجد الإنسان في التدوين والكتابة مراده ليتحدى قيود الفناء.
بداية التدوين تمثلت في النحت على الكهوف، ومن ثمة وفي مرحلة لاحقة فيما تمت تسميته بالعصر الزراعي انتقل الانسان من العيش في البرية إلى تكوين مجتمعات صغيرة تحرث وتزرع ، وبهذا تطورت المعرفة وخاصة علوم الحساب لضمان إنجاح الموسم الفلاحي، وبدأ ظهور مبادئ اجتماعية جديدة تهتم بتنظيم شؤون الأفراد وضمان حقوقهم وتحديد واجباتهم فكانت بذلك ولادة ما يعرف حديثا بالقانون المنظم لشؤون الناس أو ما سماه المفكر الفرنسي جون جاك روسو بالعقد الاجتماعي ، هذا إضافة إلى صعود ما اصطلح على تسميته لاحقا بالإدارة التي تعمل على تنظيمات وتيسير التعاملات بين الأفراد وبين السلطة المركزية في النظام السياسي.
وتلاحقت التطورات البشرية خاصة في الهيكلة التنظيمية لأسلوب عيش الناس وظهرت المدينة مع تراجع الريف، وظهرت للوجود قطاعات حديثة على غرار ما يسمى بقطاع الخدمات بعدما كانت حياة الإنسان تقف عند حدود الفلاحة والصناعة في مرحلة لاحقة، وبظهور القطاع الخدماتي صار التدوين والتوثيق واقعا يوميا، كما أدى انتقال الإنسان من الرعوي الزراعي نحو مجتمعات الخدمات والرفاه المادي إلى انتاج كم معرفي أكبر بعدما كفته المدنية إلى حد كبير عناء البحث والتعب في زراعة الأرض وصهر الحديد وغيرها مما كان يتم قبلا بطريقة يدوية مجهدة.
ومع تقدم الزمن تعمق اليقين لدى الأفراد أكثر فأكثر بأهمية التدوين والأرشفة وتخزين المعرفة، وهو ما تمت ترجمته على أرض الواقع على شكل طفرات معرفية هامة ساعد في إنجاحها تطور وسائل الكتابة والطباعة إضافة إلى انتعاش علوم مخصوصة مثل الترجمة التي أسهمت بدورها في تعزيز التبادل المعرفي بين الناس والقفز فوق حدود القطر والوطن الواحد.
هذه المنعطفات الهامة في حياة الإنسان نتج عنها تكدس معرفي هائل وظهرت المكتبات التي تزخر بشتى أنواع المعرفة بل وظهرت منتجات فكرية وعلوم كان من المستحيل أن يتاح لها سبيل الظهور لولا القفزة البشرية الكبرى من ثقافة الشفهي إلى ثقافة المدون والمكتوب، أيضا ومع تراكم المعرفة وصل الإنسان إلى قناعة بأن المعرفة المكتوبة خالدة وتصلح لكل زمان ومكان ، كما يمكن إعادة استعمالها والرجوع لها استئناسا بما خلصت إليه في سياق المراكمة وحفظ الخبرات.
وقد ظلت عملية المراكمة المعرفية ضمن تسير بنسق خطي واحد وبوتيرة بطيئة ومتزنة إلى حدود ظهور ما يعرف بالثورة المعلوماتية أو ثورة الكومبيوتر الذي اختصر في سنوات قليلة الجهود التي بذلها البشر على مدى آلاف السنين لإنتاج معارف جديدة تهتم وتعالج مشاكل الحاضر وتستشرف المستقبل، ففي سنة 2005 تم قياس حجم المعرفة البشرية التي تم انتاجها منذ بدأ التدوين ومنذ فجر التاريخ عموما بما يقدر ب 5 مليار جيجابايت من البيانات على شكل رسومات ووثائق وكتب وغيرها، غير أن هذا الكم نفسه من البيانات أي 5 مليار جيجابايت تم إنتاجه سنة 2011 في يومين فقط، وفي عام 2013 يتم إنتاج هذا القدر نفسه من البيانات كل عشر دقائق، والمثير في المسألة أن 90% من البيانات الحديثة الموجودة اليوم تم إنتاجها خلال آخر عامين فقط.
وبهذا تغير مفهوم البيانات والمعرفة من كونها بحوثا ودراسات ومراكمات تنتجها نخبة خاصة لتصبح كل ما ينتجه الإنسان من معلومات بشكل يومي في سياق تعاملاته وحركته العادية، فعلى سبيل المثال بلغ عدد الهواتف الجوالة الذكية المستعملة عام 2013 ما يتجاوز ال 7 مليار هاتف أي ما يوازي هاتفا ذكيا لكل فرد على سطح الأرض، وأثناء استعمال هذه الهواتف يتم إنتاج كم خرافي من البيانات ناهيك عن بقية الأجهزة الأخرى التي تتصل بالإنترنيت والتي بدورها توفر كما غير محدود من البيانات وبشكل فوري سريع.
يتم تجميع البيانات وتحليلها ويقع بموجبها رسم نماذج سلوكية وأنماط تصرف تستعمل لاحقا لتسويق منتج بعينه لمجموعة بشرية محددة وفق ميولاتها واهتماماتها وحاجياتها اليومية، كما يقع استعمال هذه البيانات أيضا في تحسين جودة الخدمات المقدمة للناس عبر رصد حجم الرضا عن منتج بعينه أو ملاحظة الانفعالات الجماهيرية بشكل عام تجاه فكرة أو مفهوم ما بعينه مثلما حصل على شبكة الفيسبوك حيث تم رصد وتتبع حجم التأييد والرفض للمرشحين الرئاسيين أثناء الانتخابات الرئاسية الأميركية، وقد وفرت البينات في هذا السياق صورة واضحة ودقيقة عن التوجه السياسي للأفراد مصنفين حسب تواجدهم الجغرافي وضمن فئة عمرية محددة ممن يحق لهم التصويت.
الخلاصة أن الإنسان انتقل من حالة الفرد الوحيد إلى المجموعة الصغيرة ومن ثمة إلى المجتمع الكوني المشترك حاملا معه المعرفة والفكر إلى مستوى أعلى وأشمل، وهو في انتقاله هذا نجح في إحداث ثورة معرفة وفكرية هائلة غيرت ملامح الوجود الإنساني ككل، لكن هذه الثورة تطرح اليوم عديد التساؤلات والإشكاليات أبرزها احترام الخصوصية الفردية والأطر الأخلاقية الضابطة للمنظومة المعرفية، فالإنسان تحول بدوره من صانع للمعرفة إلى مادة للدراسة والتحليل تتم الاستفادة منها، وبذلك تغيرت المعرفة في ماهيتها من وسيلة لحل المشكلات الإنسانية إلى مفهوم أشمل لا يقف عند حدود الإنسان وخصوصيته بل يتعامل معه كموضوع للدراسة .
وبهذا يسير التطور المعرفي بسرعة الضوء في الوقت الذي لم تتوصل فيه الإنسانية إلى غاية اللحظة إلى صياغة كود أخلاقي مشترك من شأنه تسييج وضبط أطر التعامل المعرفي والفكري خاصة في تناول كل ما هو إنساني، ويبقى التحدي قائما كيلا يعيد التاريخ نفسه عندما نجحت فيزياء أينشتاين في بناء القنبلة النووية وانحراف المعرفة من خدمة الإنسان إلى القضاء عليه، لكن الوضع اليوم مختلف عن فترة الحرب العالمية الثانية فالقنبلة النووية المعرفية الجديدة التي قد يتم إنتاجها اليوم لن يقف انفجارها عند حدود هيروشيما وناكازاكي بل ستطال الجميع وصولا إلى النيل من أدق تفاصيل حياة الأفراد الشخصية والحميمية.
في القديم كان إنتاج المعرفة يسير جنبا إلى جنبا مع النضج البشري وصناعة الوعي لكن اليوم وفي عصر السرعة إلى غاية اللحظة الراهنة لم تحدث أية وقفة إنسانية متريثة لتقييم ما وصل إليه الإنسان ومعالجة أوجه الخلل وتصحيح المسار نحو إعادة التوازن في العلاقة بين الإنسان وما ينتجه معرفيا، وعلى ما يبدو أن الأنسان تحرر تاريخيا من عبودية الفرد للفرد ليصنع عبودية حديثة أساسها المخرجات المعرفية والثورة في عالم البيانات.