في الوزاري العربي الطارئ الذي عُقد بعد يومين من القرار الوقح للرئيس الأمريكي ترمب بشأن القدس المحتلة، استمعنا إلى كلمات جيدة قليلة، وأخرى تحصيل حاصل، ونوع ثالث تعكس سطوره التخاذل تجاه أمريكا وإسرائيل طرفي الغطرسة الدائمة على العرب.
هذا فقط هو التحرك السياسي الوحيد خلال عشرة أيام حتى الآن بشأن القرار العدواني، لا قمة استثنائية تتخذ قراراً جريئاً ولو لمرة واحدة يتناسب مع قيمة ومكانة ورمزية وخصوصية القدس، ويأبى النظام الرسمي العربي إلا أن يكون متسقاً مع نفسه في العجز المستديم، والتبعية المهينة، والانهزامية المرضية.
وحتى في القمة الإسلامية الطارئة في إسطنبول كان التمثيل العربي دون المستوى اللائق، فلم يحضر من القادة إلا عدد قليل، ولهذا كان الرئيس التركي أردوغان الصوت الأقوى الذي يصفع إسرائيل بوصفها "دولة احتلال وإرهاب"، ويفضح ترمب قائلاً إنه يفكر بعقلية صهيونية إنجيلية، وفي ظل صمت الآخرين يبدو أردوغان صوتاً مختلفاً في الدفاع عن قضايا المسلمين من القدس في فلسطين إلى الأقلية المضطهدة في ميانمار.
في الوزاري العربي كانت كلمة الوزير اللبناني جبران باسيل الأقوى والأفضل في رأيي، تُشَخِّص الحالة العربية الرسمية المهينة ضعفاً وانكساراً وخنوعاً وتبعيةً ممجوجةً لخصوم وأعداء صرحاء يجاهرون بالعداوة للقضايا العربية العادلة والمشروعة، ولا يقيمون وزناً لمن يقفون على أعتابهم، ويطرقون أبوابهم ورؤوسهم، ويقدمون إليهم ما لم يقدمه أحد من قبل في الولاء السياسي، والصفقات المالية، والتجارية، والعسكرية.
ما حصل عليه ترمب من دول عربية خلال أقل من عام واحد من رئاسته لم يحصل عليه الرؤساء السابقون في أمريكا، ومع ذلك لم يقدم لها أي مقابل، ولا مثقال ذرة، بل ساهم في إشعال أزمات غير مسبوقة بينها "الأزمة الخليجية"، وصب مزيداً من الزيت على النار الطائفية والمذهبية المشتعلة بين بعض عواصم العرب وبين إيران، وفي مسألة القدس لم يحفظ ماء وجه حكام عرب أمام شعوبهم، إنما اقترف جريمة لم يقترب منها رئيس سابق باعترافه أنها عاصمة أبدية موحدة لدولة الاحتلال، ووقع في مشهد احتفالي على قرار نقل السفارة إليها، ما رأيكم في رئيس كهذا؟، وفي عرب كهؤلاء؟، يبايعون رئيساً يتخذه اليمين المتطرف والجماعات العنصرية والنازية في أمريكا وعموم أوربا رمزاً لهم، وتعتبره إسرائيل الأشد إخلاصاً لها وأنه دخل تاريخها وتاريخ القدس.
عقل وتفكير ونهج وبرنامج وشخص ترمب معروف من قبل أن يترشح للرئاسة، وازداد وضوحاً خلال حملته الانتخابية، والقدس في صلب برنامجه للسياسة الخارجية، وكل ما كان يقوله ينفذه تدريجياً منذ دخل البيت الأبيض، قد يتعثر أو يتأخر في تنفيذ قضية، لكنه ماضٍ في إنجاز كل وعد قطعه على نفسه لناخبيه، ولا ندري كيف انجرف بعض العرب إليه؟ وكيف رأوه؟ وماذا كان تقييمهم له، وسر تفاؤلهم به، ورغبتهم في فوزه بالرئاسة، وهزيمة منافسته هيلاري كلينتون؟ وماذا يقولون اليوم عن أوباما، الذي كرهوه، مقارنة بسياسات ترمب العدوانية المثيرة للتوتر العام في الشرق الأوسط والعالم؟ وكيف يلقون في حجر "محتال محنك" كل أوراقهم وأموالهم، ويعولون عليه في أنه سيكون الصديق الوفي، والحليف الوثيق؟ ماذا يقولون اليوم بعد قضية القدس؟ ألا يزالون يأملون منه خيراً، أم يراجعون أنفسهم بعقل وضمير وطني عربي قومي إسلامي يستيقظ بعد غفوة، أم أن أنفسهم مكسورة، ويعضون أصابعهم من الندم والخديعة، وهم ماهرون في السقوط في شِرَاكِها؟
هل هناك دليل على صفاقة ترمب وعدم اعتداده بأصدقائه وحلفائه، وممولي اقتصاد بلاده، ومصانع أسلحته، وتوفير الوظائف لمواطنيه أكثر من اتصاله بعدد من الحكام عشية توقيع قراره لإبلاغهم أنه سينفذ رغبة إسرائيل الوطيدة بالاعتراف بالقدس عاصمة لها، ونقل سفارة بلاده إليها؟ إنها العنجهية، والنظر من أعلى لداعميه الذين قالوا في بياناتهم إنهم حذروه، فما قيمة التحذيرات؟ وماذا فعلت؟
في تفسير ذلك أن المتماهين مع ترمب بالكامل إما كانوا طيبين أكثر من اللازم رغم أنه في رسم سياسات الدول، وطبيعة علاقاتها وتعاملاتها الخارجية، وسبر شخصيات القادة، لا مجال لمعاني الطيبة، وحسن النوايا. والتفسير الآخر أنهم لا يمانعون فيما يجري، ولا يرونه مزعجاً لهم، ويوافقون عليه، ويسلمون به، ويراهنون على أن الضجيج سيكون وقتياً ثم تعود الأوضاع إلى طبيعتها في التسليم القدري بحالة الضعف، والتبرير أن موازين القوى ليست في صالحنا، إنه الإخلاص لحقيقة العجز الرسمي، ومحاولة فرض هذه الحالة على الشعوب حتى يتساوى الرأس مع القاعدة في الهزال والاستسلام.
من لبنان البلد الصغير مساحةً وسكاناً وموارد خرجت مقاومة شعبية لإسرائيل عبر حزب الله المدعوم من مكونات الشعب اللبناني، ومختلف قواه السياسية قبل أن ينحرف الحزب عن طريق المقاومة الصحيح باتجاه إسرائيل إلى الداخل اللبناني والخارج العربي فيخفت ألقه، وتتآكل مشروعيته ودعمه الواسع لبنانياً وعربياً وإسلامياً. لكن لبنان المسكون بروح المقاومة في كل جنباته يقدم ممانعة سياسية تستحق التقدير عبر موقفه في الجامعة العربية من قضية القدس، ومن التشخيص الدقيق لجذور الأزمة العربية، والحلول التقدمية التي يطرحها للخروج منها، ونصرة القدس وإنقاذها، وقبل ذلك بأيام كان موقفه وتحركه بشأن قضية رئيس حكومته سعد الحريري حيث قدم فيه معنىً مهماً للمقاومة السياسية الناجحة لتحرير أحد قادته من احتجاز قسري في بلد آخر.
فكرة الدول الكبرى، ودول الثراء المالي، ودول التضخم الذاتي، تتراجع بشكل غير لائق بتاريخها، ووضعياتها، ومراكزها التي اكتسبتها لأسباب موضوعية، لكنها لم تعد تقوم بتكاليفها واستحقاقاتها، كما يتراجع ما كان مأمولاً منها، ومتوقعاً أن يصدر عنها في القضايا القومية الكبرى بسب التسليم، أو الاستسلام لأقدار سلبية هي من تصنعها لنفسها بنفسها، ولا يستطيع أحد أن يفرضها عليها إذا أرادت رفضها، وعدم القبول بها.
لبنان العربي نموذج في روح المقاومة المتجددة، وفلسطين والفلسطينيون جميعاً هم وطن المقاومة، وأصلها الشامخ، وهم في غنى عن أي حديث أو إطراء، وتركيا تواجه، ولا تتوارى بعيداً رغم علاقاتها الوثيقة مع الأمريكي والإسرائيلي، وكوريا الشمالية غير العربية نموذج بعيد عنا في المقاومة الصريحة لأمريكا، وصناعة القدر الذي تريده لنفسها، رغم أنه لا مقارنة بين قدرات قوة عظمى هائلة، وقدرات دولة صغيرة فقيرة تريد أن يكون لها كينونة، رغم رفضنا لديكتاتورية نظام الحكم فيها.
ما استحق أن يعيش يوماً من يحيا في مذلةٍ ساعةً.