بقلم: أحمد عبده طرابيك
تحظي جولة رئيس كوريا الجنوبية مون جيه إن في منطقة الشرق الأوسط بأهمية بالغة من كافة الجوانب، حيث شملت الجولة زيارة لكل من دولة الإمارات العربية والمملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية، فالدول الثلاث تمثل ثقل سياسي واقتصادي كبيرين في منطقة الشرق الأوسط، خاصة وأن كوريا الجنوبية تسعي لتعزيز تواجدها الإقتصادي بشكل قوي، ليس في منطقة الشرق الأوسط وحسب، بل في القارة الأفريقية أيضاً، ومن هنا تكمن أهمية هذه الجولة التي كان محورها الأول هو الإقتصاد.
بدأت جولة الرئيس مون جيه إن، بدولة الإمارات العربية المتحدة، حيث زار جناح كوريا الجنوبية في معرض اكسبو دبي 2020، حيث شارك في بعض فعاليات الاحتفال باليوم الوطني الكوري، وتوجيه رسالة لحشد التأييد الدولي لسعي كوريا الجنوبية لإستضافة معرض إكسبو 2030 العالمي في مدينة بوسان.
لم يغب عن برنامج الرئيس مون جيه إن، الترويج لـ "الموجة الكورية" وقوتها الناعمة، خاصة وأن الفرق الكورية تحظي باهتمام بالغ في دول الخليج، حيث شارك في عرض مبهر لموسيقى الكيه- بوب، التي سحرت العالم وعززت القوة الناعمة لكوريا الجنوبية بما يضاهي قوتها الإقتصادية، كما وصفها الرئيس الكوري نفسه.
محادثات الرئيس مون جيه إن، مع المسئولين الإماراتيين، وفي مقدمتهم ولي العهد محمد بن زايد، ورئيس الوزراء الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، تناولت موضوعات هامة للتعاون بين البلدين، فقد تم التركيز علي التعاون في صناعة الهيدروجين، الذي يعد أحد القطاعات الواعدة لحقبة ما بعد الوقود الأحفوري، وكذلك التعاون في مجالات الدفاع والبنى التحتية والتغير المناخي.
خلال جولته الثانية بمنطقة الشرق الأوسط، حطت رحال رئيس كوريا الجنوبية مون جيه إن في المملكة العربية السعودية، التي تعد الزيارة الأولي لرئيس كوري جنوبي إلي المملكة منذ سبع سنوات، حيث ناقش مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، العديد من موضوعات التعاون في مجالات اقتصاد الهيدروجين والأمونيا، والرعاية الصحية والتقنية الرقمية، والمعادن، والأسلحة الكورية. كما تناولت محادثات الرئيس الكوري مع ولي العهد السعودي، الصفقات المحتملة بشأن أنظمة الدفاع والأسلحة وكذلك مفاعلات الإندماج النووي الكورية.
أسفرت الزيارة عن توقيع كوريا الجنوبية والمملكة العربية السعودية علي 14 بروتوكول تعاون علي هامش منتدى الاستثمار الكوري السعودي، بمشاركة الرئيس الكوري الجنوبي، ووزير الاستثمار السعودي، خالد بن عبد العزيز الفالح في مجالات الصناعات الجديدة مثل التصنيع والطاقة والصحة والطب والهيدروجين، والأمونيا، والملكية الفكرية، وإدخال تقنيات تحويل النفط الخام إلى منتجات كيميائية بالتكسر الحراري، والاستجابة المشتركة لفيروس كورونا، وتأمين محرك نمو جديد، حيث تم الإتفاق علي إنشاء مصنع لصب وتشكيل المعادن بقيمة 940 مليون دولار داخل مجمع الملك سلمان العالمي للصناعات والخدمات البحرية بالسعودية.
وتسعي كوريا الجنوبية من وراء هذا التعاون في مجال الهيدروجين إلي تأمين إمداداتها من الهيدروجين والأمونيا التي لا تسبب انبعاثات كربونية من السعودية، وفي المقابل، ستقوم كوريا الجنوبية بمساعدة السعودية على تشغيل السيارات التي تعمل بالهيدروجين وبناء محطات التزود بوقود الهيدروجين.
كان لموضوع الإستثمارات جانب كبير في محادثات الرئيس الكوري في السعودية، حيث ناقش الرئيس مون جيه إن، مع ياسر الرميان محافظ صندوق الاستثمارات العامة السعودي ورئيس مجلس إدارة شركة أرامكو العملاقة للنفط، أهمية الإستثمارات السعودية في كوريا الجنوبية، والمزايا التي يمكن أن توفرها كوريا الجنوبية للإستثمارات السعودية.
شكل لقاء الرئيس مون جيه إن مع الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، نايف الحجرف، في الرياض، أهمية كبيرة لرغبة كوريا الجنوبية في استئناف محادثات التجارة الحرة مع دول الخليج، حيث تسعي سيول إلي عقد اتفاقية تجارة حرة مع مجلس التعاون الخليجي خلال ستة أشهر، والتي من شأنها أن تفتح آفاقا واسعة للتعاون التجاري والصناعي بين دول المجلس وكوريا الجنوبية.
كانت للقوة الناعمة لكوريا الجنوبية وجود قوي أيضا خلال زيارة الرئيس مون جيه إن للملكة العربية السعودية، وذلك عندما وضع في برنامج زيارته مدينة الدرعية التاريخية، المدرجة ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي، التأكيد علي الدور الثقافي في العلاقات بين البلدين، خاصة مع تنامي الاهتمام السعودي الفرق الكورية التي أصبحت تشكل فقرات رئيسية في أيام الرياض الثقافية.
أما المحطة الثالثة والأخيرة في جولة الرئيس مون جيه إن، في منطقة الشرق الأوسط، فكانت في القاهرة، التي لم يزرها رئيس كوري جنوبي منذ 16 عاماً، فقد شكلت أهمية كبيرة، وذلك باعتبار أن مصر تشكل البوابة الواسعة للقارة الأفريقية، إلي جانب ما تمثله القاهرة من ثقل سياسي واقتصادي في منطقة الشرق الأوسط، والتي تعد رداً علي زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلي سيول عام 2016، والتي تم خلالها تدشين علاقات الشراكة الإستراتيجية بين البلدين، حيث تم التوقيع خلال تلك الزيارة علي توقيع 9 اتفاقيات ومذكرات تفاهم تضمنت اتفاق إطاري لتنظيم إتاحة القروض الكورية لمصر، والترتيبات الخاصة بمشروع تطوير نظم الإشارات للسكك الحديدية بين نجع حمادي والأقصر، وإنشاء الكلية المصرية الكورية للتكنولوجيا، ومشروع تطوير ميناء الإسكندرية.
وعقب هذه الزيارة، تم تنفيذ العديد من المشروعات التنموية الكبرى، ووصل حجم التبادل التجاري إلى نحو مليارين ونصف مليار دولار، حيث تسجل محفظة التمويل التنموي الجارية بين الدولتين نحو ٥٠٠ مليون دولار.
وقد جاءت زيارة الرئيس مون جيه إن إلي مصر لإستكمال المباحثات حول تطوير تلك العلاقات، خاصة وأن مصر وكوريا الجنوبية تسعيان من خلال العديد من المشروعات التنموية الكبرى إلى إطلاق العلاقات لآفاق تتعلق في المرحلة القادمة بالصناعات الخضراء والطاقة المتجددة، هذا إلي جانب رغبة البلدين لإبرام اتفاقية تجارة حرة تكون بمثابة إنطلاقة كبري في العلاقات الاقتصادية، ومكافحة وباء كورونا، وتطوير وتبادل المعرفة فيما يتعلق بالمشروعات النووية خاصة في منطقة الضبعة، وقد تمت صياغة العديد من المحاور في تلك العلاقات خلال مشاركة الرئيس الكوري الجنوبي في المائدة المستديرة حول الصناعة والاستثمار، والتي تحدث فيها عن التعاون في مشروعات كبرى تتعلق بالكثير من المجالات، ومن بينها تطوير السكك الحديدية، والسيارات الكهربائية، ومشروعات تحلية مياه البحر، والصناعات الإلكترونية، خاصة مع اختيار شركات كورية كبرى لأن تكون مصر محطة رئيسية لتوريد إنتاجها وتصديره للدول الأفريقية ولكافة دول العالم.
تعمل نحو 170 شركة كورية فى مصر، منها 33 شركة كبرى تغطى مجموعة واسعة من القطاعات مثل الإلكترونيات كشركة سامسونج، LG، والنقل والطاقة والمنسوجات كشركة Seong-An، Ulhwa، إلي جانب شركات تعمل في قطاعات البناء والخدمات والسيارات، ويعمل في هذه الشركات نحو 4500 شخص، ويبلغ حجم الاستثمارات الكورية فى مصر حوالى 800 مليون دولار.
ولتأكيد سياسة القوة الناعمة، وتعزيز "الموجة الكورية"، فقد أنشأت كوريا الجنوبية، المركز الثقافى الكوري فى ٢٩ أكتوبر 2014، بالقاهرة، والذى يعد الأول من نوعه فى الشرق الأوسط والمنطقة العربية، حيث يعمل المركز كنافذة لتعزيز التبادل الثقافى بين مصر وكوريا من خلال تقديم الثقافة الكورية للشعب المصرى وتعريف الكوريين بالثقافة المصرية، وينظم المركز دورات مجانية لتعليم اللغة الكورية ومعارض للفرق الفنية ومعارض للكتب والفنون وتعليم فنون المطبخ الكورى ورياضة التايكوندو. هذا إلي جانب تبادل المنح التعليمية بين مصر وكوريا الجنوبية
وتتبادل البلدين في مجال التعليم المنح ، حيث تقدم مصر كل عام منح لتعليم اللغة العربية، ومنح للعلوم الإسلامية من جامعة الأزهر لمسلمي كوريا، بالإضافة إلى منح للمشاركة في البرامج التدريبية التي يقيمها المركز الدولي للزراعة التابع لوزارة الزراعة المصرية، ومن جانبها تقدم كوريا الجنوبية عدداً من المنح لتعليم اللغة الكورية، ومنح للحصول على الماجستير في الإدارة والعلاقات الدولية من خلال الوكالة الكورية للتعاون الدولي KOICA.
تتوجه كوريا الجنوبية بقوة نحو منطقة الشرق الأوسط والقارة الأفريقية، التي تعتبر مناطق واعدة للتعاون معها، في ظل السياسة الكورية القائمة علي دعم الإقتصاد الكوري بالدرجة الأولي بعيداً عن تعقيدات السياسة وحساباتها المتغيرة، حيث تعتبر منطقة الشرق الأوسط التي أرهقتها الحروب والصراعات والنزاعات، من المناطق الحيوية التي تلبي طموحات كوريا في فتح أسواق جديدة لمنتجاتها، ومورد هام للمواد الخام، وخاصة أن الدول الثلاثة التي زارها الرئيس مون جيه إن، لديها طموحات في توطين التقنيات الحديثة، والبحث عن موارد جديدة لتقليل الاعتماد علي الموارد النفطية، بغية تحقيق إنطلاقة قوية نحو المستقبل، واضعة أمام أعينها النموذج الكوري كتجربة رائدة في التطور والإزدهار.