ارتبطت دولة المماليك في مصر والشام بعلاقات تاريخية وثيقة مع دولة مغول القفجاق أو القبيلة الـذهبية الذين استقروا شمالي البحر الأسود وشرقيه، خلال الفترة ما بين القرن الثالث عشر وحتي منتصف القرن الرابع عشر، فبعد أن اعتنق هذا الفرع من المغول للديانة الإسلامية، اشتد الخلاف والصراع بينهم وبين مغول فارس والعراق، وتحول هذا الصراع إلي عداء بين الجانبين، الأمر الذي ترتب عليه نوع من التقارب والتحالف والتعاون بين سلطنة المماليك في مصر والشام وبين مغول القفجاق ضد عدو مشترك هو مغول فارس.
لقد شكل إسلام بركة خان واعتلائه العرش كأول ملك مغولي مسلم، علي انتشار الإسلام بين مغول القفجاق، وشكل ذلك الأساس المتين في عملية تحول مغول القفجاق إلي الإسلام خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر. وقد تمتع بركة خان بقدر كبير من التسامح الديني والانفتاح علي الثقافات الأخري، فلم تشهد بلاده أي عملية اضطهاد ديني ضد طائفة دينية أخري، فعلي الرغم من اعتناقه الإسلام وحرصه علي اظهار شعائر الإسلام والدفاع عن أتباعه المضطهدين خارج خانية القفجاق، فقد تمتع جميع السكان في عهده بحقوق متساوية، وأعفي رجال الدين المسيحي من دفع الضرائب، بل وأنشئت في عهده أول أبرشية مسيحية في مدينة شراي عاصمة مغول القفجاق، كما تواجد ممثلون عن الطائفة المسيحية في بلاطه بشكل دائم، كذلك احتفظ القفجاق الذين رفضوا الدخول في الإسلام بكافة حقوقهم وامتيازاتهم، وتمتعت جميع القوميات والطوائف في بلاده بحرية التنقل والعبادة.
يعد بركة خان وأخيه باتو المؤسسان الحقيقيان لدولة مغول القفجاق، فإذن كان باتو قد أوجد خانية القفجاق بامتدادها الجغرافي، فإن بركة خان قد وضع أسس تلك الدولة من خلال وضع السياسات الإقتصادية ورسم العلاقات الخارجية للدولة، والتي استمرت بعد وفاته، وسار عليها خلفاؤه من بعده، كما استحدث بركة خان نظم إدارية واقتصادية جديدة، حيث أصبحت التجارة في البحر الأسود في عهده وعهد خلفائه شريان التجارة الرئيسي في خانية القفجاق.
تعددت الروابط بين دولتي مغول القفجاق وسلاطين المماليك، شملت هذه الروابط العديد من الأشكال ما بين المصاهرات وتبادل البعثات الدبلوماسية وعقد اتفاقيات بين الطرفين في مختلف المجالات الأمنية والسياسية والاقتصادية.
شكل عهد السلطان الظاهر بيبرس، ثم فترة حكم أسرة قلاوون وخاصة عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون، أكثر الفترات نشاطاً في التعاون بين الدولة المملوكية ودولة مغول القفجاق، فقد بدأ أول اتصال بين خانية القفجاق والمماليك عام 660هـ/ 1261م، وذلك عندما وصلت مجموعة من المغول إلي شرق سوريا متوجهين إلي دمشق، كان بركة خان قد أرسلهم إلي هولاكو في حملته علي إيران، فلما نشبت الحرب بينهما، أرسل بركة خان إلي قواته يطلب منهم مغادرة مسكر هولاكو والقدوم إليه، فإن لم يتمكنوا من ذلك، فليلجأو إلي مصر.
كتب الظاهر السلطان بيبرس إلي نوابه في الشام بإكرام هؤلاء الوافدين، وخرج لإستقبالهم بنفسه في القاهرة، حيث كان عددهم يزيد عن المائتين، وأمر ببناء منازل لهم في باب اللوق، وأرسل إليهم الملابس والخيول والأموال، وأقام لهم احتفالية كبيرة، وضمهم إلي مماليكه، وأسلموا وحسن إسلامهم، وقد شجع هذا الاستقبال الطيب من قبل الظاهر بيبرس أعداداً أخري من القفجاقيين علي القدوم إلي مصر، فتوافدوا جماعات متتالية حتي صار مجموع ما قدم إلي مصر من القفجاق في عهد الظاهر بيبرس أكثر من ثلاثة آلاف فارس.
اندمج القفجاقيين بسرعة في المجتمع المملوكي، وأنعم السلطان بيبرس علي الكثيرين منهم بالرتب المختلفة. وقد أورد ابن عبد الزهار في الروض الزاهر، والمقريزي في المواعظ والاعتبار بذكر الحفظ والآثار، الكثير من قصص هؤلاء القفجاقيين الذين وفدوا إلي مصر.
كان هناك العديد من العوامل التي جعلت من مصر الوجهة المفضلة لهؤلاء القفجاقيين، كان من بينها الكرم الكبير الذي أظهره السلطان بيبرس لهؤلاء القفجاقيين، والأصل المشترم بينهم وبين المماليك في مصر والذين ينحدرون أيضاً من بلاد القفجاق، إلي جانب التركيبة الاجتماعية المتشابهة لكل من دولة المماليك والقفجاق، حيث تكونت الطبقة الحاكمة في كلا الدولتين من أفراد ينتمون إلي العرق التركي، اضافة إلي العامل الديني الذي جمع بين بركة خان ودولة المماليك.
كان من الطبيعي أن ينتقل الكثير من العادات والتقاليد والنظم الاجتماعية والفكرية في بلاد القفجاق إلي مصر، فانتشرت الألقاب المغولية بين المماليك وقادتهم، وكثر زواج المماليك من المغوليات، كما تأثر المماليك ببعض العادات الاجتماعية الأخري لدي المغول، مثل أكل لحوم الخيل في الاحتفالات، وهو الطعان الرئيسي المفضل لدي المغول، كما امتد التأثير القفجاقي إلي الملابس العسكرية التي كان يرتديها الجنود، حيث غلب عليها الطابع القفجاقي، وانتشرت الأسلحة القفجاقية، كما تشابهت التنظيمات العسكرية التي أدخلها السلطان بيبرس والسلاطين المماليك من بعده في الجيش المملوكي، مع الكثير من النظم القفجاقية.
عمل بركة خان علي قلب موازين القوي الدولية في عصره، كما عمل علي تغيير حارطة التحالفات المتعارف عليها في تلك الفترة، حيث شكلت امبراطورية المغول بفروعها الأربع في الصين وتركستان وإيران والقفجاق قوة عظمي وحيدة في العالم في ذلك العصر، فالعالم الإسلامي كان ممزق الأوصال يعاني الإنهيار، ومقسم إلي عدة دويلات، ولم يكن الوضع في أوروبا أفضل حالاً من ذلك، وكان الأمر ليستمر علي هذا الوضع لسنوات لو لم يدق بركة خان أول مسمار في نعش الإمبراطورية العظمي، حيث خرج من الكيان المغولي الموحد، وأنهي تبعية القفجاق لدولة المغول الأم في الصين، حيث عمل علي استقلال القفجاق اقتصادياً زسياسياً بعد أن كان يذهب جزء من موارده إلي القان في الصين، كما استقل بنحو ثلث القوة العسكرية للجيش الإمبراطوري، الأمر الذي أدي إلي اضعاف القوة الموحدة للمغول.
لم يقف العداء بين بركة خان وأقاربه من المغول عند انفصاله عن الكيان المغولي الموحد، بل دخل في مواجهات مسلحة مع ابن عمه هولاكو خان، وهو الأمر الذي أدي إلي اضعاف ما تبقي من قوة المغول، خاصة وأن خانية تركستان قد استقلت هي الأخري، ولم يتبق في الاتحاد المغولي سوي هولاكو، وأخيه قوبيلاي في الصين، والذي كان مشغولاً هو الآخر بإرساء قواعد حكمه، وبذلك أصبح هولاكو وحيداً في مواجهة بركة خان، الذي أخذ في البحث عن حلفاء له، فاتجه ناحية المماليك باعتبارهم القوة الإسلامية المءثرة في ذلك الوقت من جهة، ولأنهم أعداء ابن عمه هولاكو من جهة أخري، بينما اتجه هولاكو ناحية الصليبيين الأعداء التقليديين للماليك من جهة، والذين كانوا يخشون من غزو مغولي محتمل من قبل القفجاق من جهة أخري، وبذلك يكون بركة خان قد أرسي قواعد التحالفات الدولية الجديدة التي استمرت بعد وفاته.
أظهر بركة خان تأثيراً كبيراً في العالم الإسلامي سواء من خلال حروبه مع ابن عمه هولاكو، أو من خلال تحالف القفجاق مع المماليك، حيث أدت حروبه مع هولاكو إلي اضعاف القوة العسكرية للمغول والذين أصبحوا غير قادرين علي تحقيق طموحاتهم في التوسع بأراضي الدولة المملوكية. كما أدي تحاف بركة خان مع المماليك إلي ضمان تدفق مماليك القفجاق إلي مصر، حيث شكلوا أساس الجيش المملوكي، ومن ثم ازدادت قوة الجيش المملوكي، وأصبح قادراً علي حسم مواجهاته العسكرية مع هولاكو ومع الصليبيين.
بقلم: أحمد عبده طرابيك