شكل يوم 15 يوليو 2016، اختباراً حقيقياً للتجربة الديمقراطية التي تعيشها تركيا منذ أن تولي حزب العدالة والتنمية مقاليد السلطة عام 2002، فمنذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923،شهدت تركيا تدخلات عديدة للجيش في الحياة السياسية من خلال أربعة انقلابات عسكرية، كان منها اثنان بشكل مباشر، بينما نتج عن الآخران الإطاحة بالحكومات المنتخبة دون سيطرة الجيش على الحكم.
يحتفل الشعب التركي بيوم 15 يوليو من كل عام، باعتباره يوم الانتصار للديمقراطية والحياة المدنية علي الإنقلابات العسكرية، ففي مثل ذلك اليوم عام 2016، قام بعض العسكريين بمحاولة انقلاب فاشلة، حيث أغلقوا الشوارع في أنقرة واسطنبول، وتم تكليف مجموعة من القوات الخاصة باعتقال الرئيس رجب طيب أردوغان الذي كان من المخطط له أن يكون اعتقاله تتويجاً لإنقلابهم. فهاجم رجال القوات الخاصة، وهم يطلقون النيران ويلقون القنابل اليدوية، فندق "كلوب توربان" بمنتجع مارماريس، الذي كان يقيم فيه الرئيس أردوغان، حيث كان يقضي عطلته الخاصة في فيلا ملحقة بالفندق، وهم مسلحون ببنادق آلية وقنابل يدوية، وقتلوا اثنين من حراسه. وكان قد سبق هذه المجموعة المسلحة وصول نبأ الإنقلاب إلي الرئيس وطاقم التأمين الخاص به، فتم نقل الرئيس من المنتجع بطائرة مروحية إلى مطار دالامان، ومنه استقل طائرة خاصة أقلته إلى اسطنبول. وقام قائد الطائرة بتمويه هويتها حتي تظهرت لنظام الرادار علي أنها طائرة مدنية عادية، وهذا ما حدث بالفعل.
نشر الرئيس أردوغان خلال سفره من مارماريس الى إسطنبول رسالة مصورة نقلها التلفزيون التركي، حث فيها المواطنين الأتراك على الخروج إلى الشوارع ومواجهة المحاولة الإنقلابية. واستجاب الأتراك لدعوة رئيسهم بقوة، حيث قتل 265 شخصاً في المواجهات التي جرت بين المواطنين والإنقلابيين. وقد ألقى البعض بأجسادهم أمام دبابات الإنقلابيين لمنعها من التحرك، بينما تعرض آخرون لنيران الإنقلابيين على جسر البوسفور في اسطنبول في محاولتهم لدحر المتآمرين. وبحلول الفجر، تبين أن المحاولة الإنقلابية قد باءت بالفشل. وظهر الرئيس أردوغان فجر يوم 15 يوليو خارج مطار أتاتورك في اسطنبول وسط هتافات الشعب التركي، بعد أن فشل الإنقلاب، وشعر الأتراك بالفخر والاعتزاز بانتصار الديمقراطية وولادة جديدة للجمهورية التركية الحديثة.
يتذكر الشعب التركي، بمزيد من الفخر والاعتزاز، شهداءه الأبرار الذين وقفوا بصدورهم العارية التي يملؤها الإيمان بالله وحب الوطن، ضدّ محاولة آثمة لاختطاف الدولة ومقدراتها بقوة السلاح، بدلاً من صناديق الاقتراع. فعقب فشل المحاولة الإنقلابية، تجمع الملايين في تظاهرات ليلية، ليعبروا عن حبهم لوطنهم وتمسكهم بوحدته، ملتفين حول الراية الحمراء التي تُظلّ جميع الأتراك.
لم تكن محاولة الانقلاب مجرد صناعة محلية وحسب، فمن الواضح أنه قد تم التخطيط لها استجابة لمؤامرة واسعة شاركت فيها أطراف إقليمية ودولية لها مصالح في زعزعة الأمن والاستقرار في تركيا ولم يرق لها ما حققته من نجاح خلال سنوات حكم حزب العدالة والتنمية، ولذلك فقد خَصّصت المليارات لتمويل تلك العملية، وسخّرت لها وسائل الإعلام، ورتّبت لها الترحيب بالاعتراف وتوفير الغطاء السياسي الدولي لها فور الإعلان عن نجاحها. لكن وقفة الشعب التركي البطولية في تلك الليلة أجهضت هذه المؤامرة في ساعات قليلة، وإن مرّت كأنها شهور ثقيلة.
تعد فشل محاولة إنقلاب 15 يوليو 2016، انتصاراً لكلّ الأمة التركية، وقد عبر الرئيس أردوغان أمام مجلس الأمة التركي الكبير "البرلمان التركي"، عن هذه العملية بأنها "لم تكن محاولة انقلابية عادية بل نقطة تحول تاريخية، ففي تلك الليلة قصف الإنقلابيون مبنى البرلمان، رمز الديمقراطية في تركيا، لأنهم يريدون إعادة تركيا إلى زمن الدكتاتورية والقمع والإرهاب، وهذا لن يحدث". ولذلك فقد اعتبر هذا الإنقلاب الفاشل خير دليل على أن الديمقراطية هي خيار الشعب التركي، الذي استطاع بوعيه ووطنيته تحويل المحاولة الانقلابية الفاشلة إلى ملحمة بطولية في تاريخ تركيا الحديثة، شاركهم فيها النواب الأتراك الذين وقفواً جميعاً من الأغلبية والمعارضة بحزم ضد الإنقلاب والإنقلابيين. وقد تجلت تلك المحلمة الديمقراطية في انتخابات 14 مايو 2023، الرئاسية والبرلمانية، والتي شهد لها الجميع بقوتها ومتانتها. فقد استطاعت تركيا التخلص من جذور الدولة العميقة التي كانت تتحكم في مفاصل الدولة، وتعود السلطة الحقيقية للشعب التركي الذي يقرر وحده اختيار حكامه ونوابه، وتحديد مصير وطنه.
استطاعت الجمهورية التركية بعد قرن من الزمان علي تأسيسها أن تضنع لنفسها مكانة بين دول العالم علي المستوي الإقليمي والدول بفضل ما حققته من نجاح لتجربتها الديمقراطية، وطفرة اقتصادية، وها هي تمدّ يد المحبة والسلام لشعوب العالم وللحكومات والمؤسسات الديمقراطية، وتدعو لتشكيل دعائم نظام عالمي جديد، ينهي الهيمنة ذات القطب الأوحد، ويؤسس لعالم خال من بؤر الإرهاب وبراكين ظلم الشعوب واحتلالها ونهب ثرواتها، وهي تؤكد في علاقتها مع العالم الخارجي دائماً على أن احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شئونها الداخلية هو المبدأ الذي يجب أن يسود في علاقات الدول ببعضها البعض باعتبار ذلك من ركائز الأمن والسلام والإزادهار في العالم.
أحمد عبده طرابيك
باحث في شئون آسيا والعالم التركي