اجتهادات فى محاولة فهم تطورات القمة الدولية

مقالات 17:35 20.07.2023
أكاد أجزم أن واحدا وواحدة فى جبهة القراء وآخر وأخرى فى جبهة المتخصصين والعلماء الذين يكتبون فى السياسة يستطيعون القول إنهم كانوا شهودا خلال سنة واحدة، هى السنة الأخيرة، على عدد من القمم الدولية والإقليمية والمحدودة يساوى أو يزيد على عدد القمم التى انعقدت خلال سنوات كثيرة. هذه الملاحظة إن صحت ودلت على أشياء فإنما على حال قلق وتوتر وصعوبة فى تصور شكل المستقبل وأخطاء فى التخطيط له وتخبط فى مواجهة التحديات. تدل أيضا على تكثيف أمريكى بريطانى ممنهج للضغط على دول الحلف ودول آسيا وأفريقيا الرافضة الاحتكاك بالحرب. أتحدث هنا بخاصة عن قمم تدعو لها وتنظمها وتكتب نتائجها وبياناتها الولايات المتحدة وعن قمم إقليمية يتشابه بعضها مع القمم الدولية فى الحيرة والشعور بعجز الإرادة وقلة الخيارات المتاحة وضغوط شعوب تعبت.
 
قرأت فى لقاءات المعسكر الغربى وآخرها لقاء قمة الحلف الأطلسى فى ليتوانيا وفى تطورات الأحداث داخل روسيا وآخرها التغيرات فى القيادات العسكرية، قرأت ما يوحى بأن «المحارب» السياسى فى الحرب «العالمية» الدائرة منذ أكثر من خمسمائة يوم تحت عنوان حرب أوكرانيا يريد، ولعله بالفعل فى أشد الحاجة إلى، استراحة. لن أكون بين المتفاجئين إن صدر فى أجل منظور إعلان من طرف ثالث عن التوصل إلى هدنة طويلة بين طرفى الحرب وأقصد بين واشنطن أو بروكسل من جهة وموسكو من جهة أخرى. يتلو هذا الإعلان مفاوضات قمة على أساس واقع مختلف كثيرا أو قليلا عن الواقع الذى نشبت فى ظله الحرب.
 
عندما نكتب عن هدنة قريبة أو وقفة محارب أو مفاوضات فلا بد أن يكون وراء ما نقول مظاهر واضحة أو على الأقل خلاصات لاجتهادات وتفسيرات حول تغيرات واقعة أو متوقعة فى سلوكيات الحرب والمتحاربين وسلوكيات الدبلوماسيين والمسئولين عن قطاعات الأمن القومى فى الدول المتحاربة. بالفعل توفر من عناصر التغيير والضغط ومن التسريبات ما يسمح لنا، أو لى على الأقل، بالتهيؤ ولو نظريا لمرحلة أخرى شديدة الاختلاف عن كثير من مراحل الانتقال السابقة من نظام قيادة عالمية إلى نظام قيادة جديد أو إلى نظام قيادة معدل. أعرض سريعا لهذه العناصر كما أراها، علما بأنها تظل خلاصة لاجتهادات لا أكثر.
 
أولا: يوجد أكثر من دليل على أن عددا متزايدا من دول الحلف الأطلسى أنهكه نزيف المعونات، أسلحة كانت أم أموالا سائلة. تأتى الحرب فى ظروف غير عادية، فآثار وتداعيات جائحة الكوفيد لم تغادر. كذلك الحال فى مشكلات البطالة والهجرة والتضخم والتقاعد المبكر التى استمرت تتدفق فى روافد الأزمة الاقتصادية مستنزفة اقتصادات معظم الدول الأوروبية ومتسببة فى تصاعد أنشطة التيارات القومية المتطرفة. الحرب الأوكرانية رافد من هذه الروافد، وربما كان أهمها، لأنه يجدد فى الوعى الأوروبى ذكريات تجارب سيئة مع حكام روسيا.
 
ثانيا: على العكس تماما تعددت الشواهد على أن ما يسمى بالمجمع الصناعى العسكرى أو يسمى بالدولة الأعمق فى أمريكا اشتد ساعده لوقف اعتدال مجمع السياسة الخارجية المكون من وزارة الخارجية وبيوت العصف الفكرى الليبرالية مثل مجلس الشئون الخارجية وجماعة العقول الخاصة المتقاعدة وفى مقدمها هنرى كيسنجر بنفوذه الذهنى الخارق للعادة ولحكم الزمن. أضف أنه صار يطل علينا بين الحين والآخر تيار فى الكونجرس حريص على مسألة مختلفة وهى تجديد انتخاب جو بايدن رئيسا لولاية ثانية، المسألة التى تتطلب مراعاة مختلفة لجماعة ناخبة متقلبة الخيارات فى شأن استمرار الدعم لأوكرانيا. لم ينس الناخب الأمريكى وعد دونالد ترامب أنه لو عاد إلى البيت الأبيض فسوف ينهى الحرب مع روسيا فى 24 ساعة. هو الوعد ذاته الذى لن يتجاهله المهيمنون على شركات تصنيع السلاح والعسكريون المتقاعدون العاملون فى خدمتها وفى خدمة جماعات الضغط.
 
 ثالثا: لا يبدو للشعوب الأوروبية أن هناك نهاية قريبة وسعيدة للحرب الدائرة بين حلف الأطلسى بقيادة أمريكا من ناحية وروسيا من ناحية أخرى. على العكس يبدو لهم ولغيرهم، مثل الصينيين وآسيويين آخرين، أن هناك قوى خفية تعمل على إطالة أمد الحرب وتضخيم صورة العدو الروسى وسد حاجة أمريكا المتطورة إلى حلف أوروبى موحد الصفوف، وحلف هندو أوروبى، يضمن كلاهما لأمريكا استعادة هيمنتها ويقلل فرص عودة روسيا إلى الصعود.
 
رابعا: أدى التمديد المتعمد فى عمر الحرب إلى نتائج لم يتوقعها الطرفان الأمريكى والروسى عند التخطيط لها وعند نشوبها. كعادتهم خطط الأمريكيون للحرب كما خططوا لغيرها، نزهة قصيرة وتنتهى. لم ينتظروا هذا الدعم الطويل من جانب الحلفاء الأوروبيين، ولم يحلموا بعودة كل من اليابان وألمانيا إلى التسلح وربما إلى التعسكر. أقدر أنهم كانوا واثقين من أن الصين ما تزال بعيدة عسكريا وسياسيا عن تهديد أمن أمريكا القومى وأمن حلفائها الآسيويين. إلا أن خمسمائة يوم أو أكثر من الحرب المكلفة ماديا وسياسيا كانت كافية لتفتح عيون الصين على حقائق جديدة، أهمها أن الحرب قد تكون فرصة للصين لتجرب عضلاتها وقواها الناعمة لتكسب بها أصدقاء فى الشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا الجنوبية وجزر فى جنوب المحيط الهادى. فى قول آخر كانت الحرب فرصة لتمتحن الصين مساحة نفوذها وتمارس أدوارا فى مواقع صارت بفضل انشغال أمريكا وأوروبا فى الحرب أكثر جاذبية ودعوة للتدخل ولم تعد وهما أو خيالا أو قرارا مؤجلا.
 
خامسا: حلت ساعة الحساب. هل الهيمنة الأمريكية كما نشأت ومورست بعد انفراط الاتحاد السوفييتى فى أواخر القرن العشرين استفادت من الصراع العسكرى بين أوكرانيا وروسيا ولا دليل على ذلك، أم تضررت بدليل انحسارها المتدرج ولكن المتسارع؟ هل أخطأ الأمريكيون وهم يخططون لهذه الحرب حين افترضوا أمرين؟ افترضوا أن قوى فى روسيا سوف تشتبك فيما بينها أو ضد قيادة الكرملين وأن الحرب بغياب الرئيس بوتين أو بثبوت ضعفه سوف تنتهى سريعا. افترضوا أيضا أن الصين عند أول استفزاز معد لها خلال الحرب، وأقصد زيارة السيدة نانسى بيلوسى لتايبيه، وأمام كفاءة أمريكا فى تعبئة وحشد الحلفاء فى أوروبا ضدها، ولسوء الإدارة الروسية للحرب وتميز الإدارة البريطانية الأمريكية سوف تقرر، أقصد الصين، التفكير فى إزاحة خيار المواجهة والمنافسة الشاملة جانبا فتعود لأمريكا هيمنتها كاملة. أمام انكشاف خطأ الافتراضين شهدنا من ناحية دول الحلف تسريعا وتضخيما لآلة الحرب ومن ناحية أخرى التهويل فى حملة علاقات عامة وإعلام دولى بقيادة الدبلوماسية الأمريكية ومن ناحية ثالثة هجمة دبلوماسية ناعمة تجاه الصين قد تتوج بلقاء مع الرئيس بايدن. الهدف على النواحى الثلاثة هو ببساطة، فى رأيى، تقصير أمد الحرب أو وقفها بالسرعة الممكنة.
 
 سادسا: أفرزت الحرب الأوكرانية منذ يومها الأول تيارا ثالثا فى ساحة العلاقات الدولية. تصورناه لفترة صيغة أخرى لمبدأ عدم الانحياز كما عرفناه فى عقدى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى. بعد قليل تيقنا أنه ليس صيغة أخرى لأى مبدأ معروف ولا تنطبق عليه قواعد وممارسات أى نمط مألوف فى العلاقات الدولية كما عهدناها وعشناها أو قرأنا عنها. تيار بلا قيادة واضحة، الأمر الذى جعله خاضعا لوعى أو إرادة الرأى العام فى دول الجنوب وبالتالى غير قابل أو مستسلم لضغوط أى طرف من طرفى الصراع الدولى الناشب بين الغرب ممثلا فى دول حلف شمال الأطلسى والشرق ممثلا فى كل من روسيا والصين. نعيش ونراقب السباق المثير بين هذا الطرف وذاك على كسب ود حكومة أو أخرى من حكومات دول الجنوب المنضوية تحت راية هذا التيار الثالث وإن أمكن ضمها ضمن تحالفات نوعية وإقليمية مصممة خصيصا لهذه الحرب. الرمز الأكثر تألقا هو حكومة الحزب القومى الهندوسى المتطرف فى الهند بعد أن صار رئيسها الضيف الأشهر المتنقل بين عاصمة غربية وأخرى شرقية وثالثة ضمن التيار الثالث، بينما فى واقع الأمر ما يزال شخصا غير مرغوب فيه فى الديموقراطيات الليبرالية الغربية وفى الصين وفى الوقت نفسه فى داخل التيار الثالث الذى يضم دولا الرأى العام فيها إسلامى العقيدة ومتعاطف مع معاناة الأقلية الإسلامية الضخمة فى الهند. جدير بالذكر أن كثيرين فى الغرب استهجنوا الاستقبال المبالغ فيه للزعيم الهندى فى كل من واشنطن وباريس، باعتبار أنه عزز اتهام الغرب، وبخاصة كل من فرنسا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة بممارسة ازدواجية المعايير والنفاق السياسى إلى حد مهين للقيم التى نشبت حرب أوكرانيا للدفاع عنها.
 
 الأسباب كثيرة ومتنوعة، تلك التى تدفعنا إلى أحضان أمل أن تتوقف قريبا الحرب التى نشبت فى حقيقتها من أجل تمديد مرحلة انفراد أمريكا بالقيادة الدولية ومنع اختراق أسوار الهيمنة الأمريكية وإقامة نظام قيادة جديد. قد تتوقف الحرب ولكن السباق على تغيير نظام القمة مستمر، يمكن أن تتجدد الحرب نفسها، ويمكن أن تنشب حروب أخرى، ويمكن أن يبتكر المتسابقون أشكالا جديدة.
 
جميل مطر  
كاتب ومحلل سياسي
 
 
 
 

أحدث الأخبار

الموت يفجع شمس البارودي
18:00 06.12.2023
الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض صاروخ بمنطقة إيلات
17:30 06.12.2023
عائلات رهائن إسرائيليين تطالب باستئناف المفاوضات للإفراج عن أولادها
17:00 06.12.2023
تركيا ترفض "المنطقة العازلة" في غزة
16:26 06.12.2023
ميرزاييف: مؤسسة أوراسيا الدولية للصحافة طرحت العديد من مبادرات أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة
14:39 06.12.2023
علييف: أذربيجان نجحت في إحلال السلام في المنطقة
13:26 06.12.2023
كيف تناولت الدراما العربية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟
كيف تناولت الدراما العربية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟
13:00 06.12.2023
علييف: كان هناك الكثير من الأرمن في قراباغ الذين لم يراعوا مبادئ القانون الدولي
11:59 06.12.2023
نتنياهو لا يرفض قطعياً صفقة تُفرغ سجونه من الفلسطينيين
11:09 06.12.2023
تدهور العلاقات بين إسرائيل والمنظمات الأممية
10:42 06.12.2023
تحذير خليجي- تركي من تمدد الحرب في غزة إلى صراع إقليمي
10:30 06.12.2023
مبادرة عربية لنشر الإرث التاريخي والثقافي لفلسطين في المكتبات الصينية
10:00 06.12.2023
السعودية تخفض أسعار تصدير النفط إلى آسيا
09:35 06.12.2023
أحزاب المعارضة التركية ترفض العودة للتحالفات في الانتخابات المحلية
09:20 06.12.2023
ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين في غزة إلي 16 ألف
09:00 06.12.2023
طرح الإعلان الترويجي الأول للعبة GTA 6
18:00 05.12.2023
الصحة العالمية : أنفلونزا الطيور تتفشى في 4 دول أوروبية
17:00 05.12.2023
إصابة عدد من الإسرائيلين إثر قصف صاروخى استهدف عسقلان
16:36 05.12.2023
أردوغان: نتانياهو يخاطر بمستقبل المنطقة بأسرها
16:00 05.12.2023
الرئيس الإيراني يزور روسيا
14:45 05.12.2023
انطلاق أعمال الجلسة الإفتاحية للقمة الخليجية الـ44 - مباشر
13:51 05.12.2023
موريتانيا... سجن الرئيس السابق 5 سنوات بتهمة غسل الأموال
13:26 05.12.2023
إسرائيل تكشف عدد الرهائن في غزة
13:00 05.12.2023
واشنطن: لا نتوقع قصف المناطق الآمنة في غزة
12:22 05.12.2023
رئيس الإمارات وملك المغرب يؤكدان ضرورة التحرك الدولي لوقف إطلاق النار في غزة
12:00 05.12.2023
تحذير من فوضى في قطاع الطاقة نتيجة دعوات التخلي عن النفط
11:30 05.12.2023
بوتين يزور السعودية والإمارات لمحادثات بالغة الأهمية
11:00 05.12.2023
النيجر تنهي الشراكات الأمنية والدفاعية مع الاتحاد الأوروبي
النيجر تنهي الشراكات الأمنية والدفاعية مع الاتحاد الأوروبي
10:00 05.12.2023
الحوثيون يتبنون هجوماً جديداً على سفينتين إسرائيليتين
09:19 05.12.2023
130 مواطنا تركيا يعبرون مع ذويهم من غزة إلى مصر
09:00 05.12.2023
رسميا.. إطلاق «زووم» على منصة Apple TV
18:00 04.12.2023
بوريل يحث إيران على استخدام «تأثيرها» لتجنب التصعيد في الشرق الأوسط
17:00 04.12.2023
وزير الدفاع المصري: القضية الفلسطينية تواجه منحنى شديد الخطورة
16:40 04.12.2023
أردوغان: نتانياهو سيُحاكم كمجرم حرب
16:22 04.12.2023
وول ستريت جورنال: هجمات الحوثيين تثبت فشل إدارة بايدن
16:00 04.12.2023
تورال إسماعيلوف: أرمينيا لا تزال متمسكة بسياسة "الإحتلال"
15:37 04.12.2023
إسرائيل تستأنف محاكمة نتانياهو
13:20 04.12.2023
أوزبكستان واحدة من أهم مواقع السياحة الدينية في العالم
أوزبكستان واحدة من أهم مواقع السياحة الدينية في العالم
12:30 04.12.2023
من ليبيا إلى قراباغ.. الطائرات المسيرة تغير شكل الحروب في العالم
11:12 04.12.2023
قروض الصين للدول النامية ـ استثمار اقتصادي أم ديون معدومة؟
11:00 04.12.2023
جميع الأخبار