لم تكن هجرة النبى- صلي الله عليه وسلم- مجرد قصة تروى كل عام فى ذكرى الهجرة أو تسرد على المنابر يوم الجمعة على أناس نصفهم يغط فى النوم أو تكتب فى الكتب المدرسية التى لا يعيرها الطلاب اهتماما لأن درجات مادتها لا تحسب فى المجموع أو يعبر عنها فيلم ركيك ضعيف يذاع كل عام. الهجرة أكبر من ذلك بكثير، إنها ميلاد أمة، وبداية قيام أعظم دولة للعدل والصدق فى التاريخ، إنها قصة بذل وكفاح نبى عظيم، ونقطة تحول رئيسية فى حياة الرسول والرسالة، وكل لحظة فى رحلة الهجرة النبوية تحتاج إلى تأمل عميق واقتداء بالعبر والدرس والحكمة من هذا الحدث الأبرز والأعظم فى حياة الرسول الكريم ورسالته الشريفة. كان عمر بن الخطاب إمام العدل السياسى والاجتماعى عبقريا حينما اختار تاريخ الهجرة كبداية للتقويم الإسلامى، مع أنه كان يمكنه اختيار مولده- صلى الله عليه وسلم- أو تاريخ وفاته، أو بداية انتصاراته فى بدر أو فتح مكة كبداية للتقويم ولكن الهجرة النبوية كانت الأهم والأكثر دلالة لأنها تمثل الانتقال الأعظم للأمة من الاستضعاف والشتات والضعف والهوان إلى التوحد تحت ظلال دولة تقوم على الحق والعدل والرحمة، فالهجرة النبوية مثلت الجسر الآمن الذى عبرت عليه الدعوة الإسلامية الوليدة من مواطن الضعف والهوان وقبول الضيم إلى مواطن القوة والعزة والكرامة المشحونة بالعدل والرحمة والحكمة.
الهجرة النبوية أبرزت أعظم نماذج الإيمان واليقين والتوكل من جهة واتخاذ الأسباب من جهة أخرى، أظهرت لنا معدن الصدق عند أبى بكر الصديق، ومعدن التضحية عند أسماء ذات النطاقين، والشجاعة والوفاء منقطع النظير عند على بن أبى طالب ذلك الغلام الفذ الذى أظهرت الهجرة معدنه الأصيل، لم يخش تلك السيوف الكثيرة التى يمكن أن تمزقه تمزيقا، ومنهم المسيحى عبدالله بن أريقط ذلك الدليل الأمين الذى كان بإمكانه أن يبيع ركب «النبى وصديقه» ليكسب جوائز قريش الثمينة. رجال الهجرة كثر ولذلك غفر الله للمهاجرين ذنوبهم وشرفهم بالهجرة، وأصبح أجرها وثوابها أثقل وأعظم من آلاف الصلوات، لأنها علامة على الصدق مع هذا الدين ورسالته وأثنى الله مرارا وتكرارا على المهاجرين فى كتابه. «الصحبة يا رسول الله» «الصحبة يا أبا بكر»، الصديق لا يستغنى عنه أحد لا فى الرخاء ولا فى الشدة، حتى الأنبياء احتاجوا لأصدقائهم وحوارييهم، وما من رسول إلا كان له خلصاء وحواريون وأصدقاء صادقون، يخففون عنهم أحمالهم، ويساندونهم، ويزيلون همهم، وينصرونهم، سلام على أبى بكر الصديق، سلام على الأصدقاء الأوفياء.
الهجرة جمعت بين قمة التوكل على الله وعبقرية التخطيط واتخاذ الأسباب، التوكل ظهر فى «ما ظنك باثنين الله ثالثهما»، «لا تحزن إن الله معنا». وقمة التخطيط فى أمور لا تحصر منها: القائد محمد والمساعد أبو بكر والفدائى على بن أبى طالب والتموين والإمداد أسماء بنت أبى بكر والاستخبارات عبدالله بن أبى بكر والتغطية وتعمية المشركين عامر بن فهيرة ودليل الرحلة عبدالله بن أريقط وخط السير غير المعتاد الطريق الساحلى.
إعداد الراحلتين من زمن طويل، التورية بخبر الرحلة حتى لأبى بكر «لعل الله يجعل لك صاحبا»، زيارة أبى بكر الصديق كل يوم، كتمان خبر الهجرة عن أسرة أبى بكر الصديق «اخرج من عندك» الخروج من الطريق المعاكس لطريق المدينة والتوجه جنوبا بدلا من شمالا، البقاء فى الغار ثلاثة أيام حتى يسكن الطلب، متابعة أخبار قريش واختيار الشخص المناسب لذلك، إسناد مهمة طمس الأثر لعامر بن فهيرة. رغم العذاب الذى لاقاه النبى الكريم وصحبه الأطهار على أيدى مشركى قريش ورغم الحصار والتجويع إلا أنه- صلى الله عليه وسلم- كلف أحد أصحابه برد الأمانات إلى أهلها بعد هجرته، لم يستحلهم كما استحلوه، لم يصادر أموالهم أو يؤمم هذه الممتلكات ردا على بغيهم وعدوانهم، إنه حقا الصادق الأمين.