بعد انتهاء رحلتى إلى اليابان التى نوهت عنها فى مقال الأسبوع الماضى، أبدأ من هذا الأسبوع شرح بعض المشاهدات التى أشفعها ببعض التحليلات عن زيارة العمل هذه التى استمرت شهرا، تخللها بعض السياحة الشخصية التى ساعدتنى فى إكمال الصورة التى أود شرح بعض أوجهها عن اليابان وشرق آسيا، والكيفية التى يتغير بها هذا الإقليم الذى كان ومازال واحدا من أهم الأقاليم التى لعبت أدوارا مهمة فى تغير السياسة الدولية منذ نهاية القرن التاسع العشر! قبل نحو ٢٣ عاما كانت زيارتى الأولى إلى اليابان، فكيف بدت بلاد الشمس المشرقة هذه المرة مختلفة؟ هناك العديد من المشاهدات التى سجلتها فى هذه الزيارة عن الكيفية التى تتغير بها اليابان، والطريقة التى يختلف بها الشعب اليابانى عما بدوا فى العقود السابقة! ولعل أهم هذه المشاهدات، هو تلك التعددية التى أضحت تؤثر على الصورة النمطية عن اليابان كبلد متجانس ومتناسق! فالبلاد التى ظلت لعقود محافظة على طابعها «اليابانى» الخالص، متحفظة بشدة تجاه الأجانب، ومقاومة بلا هوادة لمحاولات التغيير، بدت هذه المرة مختلفة تماما عن المرات السابقة حيث يمكن مشاهدة الكثير من ملامح العولمة وزيادة المكون الأجنبى فى تركيبة هذا المجتمع اليابانى! منذ الوصول إلى مطارى «هانيدا» و«ناريتا» وهما المطاران الدوليان الأكبر فى طوكيو، يمكن رؤية هذا الكم من صغار اليابانيين الذين يحملون ملامح غربية أو أفريقية أو غيرها، وهم الأطفال الذين ولدوا لأسرة أحد أعضائها يابانى، سواء كان الأب أو الأم بينما العضو الآخر أجنبى. ربما كان هذا من الطبيعى رؤيته فى أى مطار فى العالم، حيث يوجد الأطفال من زيجات مختلطة فى زيارة إلى بلد الأم أو الأب، لكن لمن يعرف اليابان جيدا، فإن الزيجات المختلطة قد زاد عددها بشكل واضح خلال العقود القليلة الماضية! وبالرغم من أن اليابان تشهد انخفاضا كبيرا فى عدد الزيجات المسجلة بشكل عام بين اليابانيين واليابانيات منذ عام ٢٠١٢، فإن عدد الزيجات المسجلة بين اليابانيين وغير اليابانيين بغض النظر عن الجنس (الجندر)، يشهد ثباتا نسبيا! ففى عام ١٩٨٣ بلغ عدد الزيجات المسجلة بين مواطنين يابانيين وشركاء غير يابانيين ١٠ آلاف زيجة، بينما تضاعف العدد فى ١٩٨٩ إلى ٢٠ ألف زيجة، ثم وصل إلى ٣٠ ألفا عام ١٩٩٩، بينما حقق الرقم القياسى الذى قارب ٤٥ ألف زيجة عام ٢٠٠٦، ثم عاد لينخفض تدريجيا بعد ذلك لبضع سنوات، قبل أن يعاود الزيادة مجددا منذ عام ٢٠١٦ حيث وصل عدد الزيجات الأجنبية إلى ٢١ ألفا، ثم إلى ٢٢ ألف زيجة عام ٢٠١٨! قطعا هناك زيجات مختلطة أخرى غير مسجلة فى اليابان أو مسجلة خارجها، كما أنه من المفهوم أنه لا ينتج عن كل هذه الزيجات أطفال، لكن الملاحظ أن الأطفال والشباب من هذه الزيجات قد أثر على المجتمع اليابانى بشكل كبير، فبدأت المدارس فى استيعاب وجود أطفال من بيئات وثقافات مختلفة رغم أن عددا كبيرا منهم يملك الجنسية اليابانية، كذلك فقد تغير الشكل النمطى للوجه اليابانى بملامحه المعروفة، فيمكن رؤية الكثير من اليابانيين من أصحاب البشرة السمراء، وأولئك بملامح يابانية/عربية، أو يابانية/غربية وغيرها من الملامح التى لم يكن من الدارج رؤيتها فى الشوارع اليابانية قبل عقدين أو ثلاثة من الآن! بعض أبناء هذه الزيجات المختلطة تمكن من جذب الأضواء فى مجالات الفن والموضة والرياضة، حيث أصبح من المألوف رؤية نجوم فى عالم الفن بأسماء يابانية لكن بملامح غربية أو نجوم فى عالم الرياضة ممثلين للمنتخبات القومية اليابانية بأسماء غربية أو فارسية أو حتى لاتينية! قال لى أحدهم وقد ولد فى عام ٢٠٠٢ لأب أسترالى وأم يابانية وعاش معظم حياته فى اليابان، إن لغته اليابانية الأصيلة لم تشفع له فى الاندماج فى المجتمع اليابانى، حيث إن اسم الأسرة الغربى، وملامحه الشقراء ظلت لسنوات عائقا أمام اندماجه فى المجتمع، لكنه أكد أن اليابان تتغير، وأن شعوره بالقبول داخل مجتمع الجامعة والاندماج وسط الطلاب زاد بشكل كبير عما كانت عليه الحال وقت المدرسة، موضحا أن الأمر مسألة وقت، وسيقر المجتمع اليابانى بحقيقة جديدة وهى أن هذا التصور التقليدى عن نقاء العرق اليابانى أصبح من باب التاريخ! المسألة لا تتوقف عند إقرار المجتمع اليابانى بحقيقة التعدد من عدمه أو توقيت حدوث ذلك، فالموضوع له أبعاد أخرى وأهمها انقلاب الأوضاع الديموغرافية رأسا على عقب، فالمجتمع اليابانى أصبح مجتمعا عجوزا، فنسبة من هم فوق سن الـ٦٥ (سن المعاش) عاما اقتربت من ٣٠٪، وذلك بسبب الرعاية الصحية الجيدة التى رفعت من متوسط الأعمار، بالإضافة إلى قلة نسب المواليد بشكل عام. فتعداد الشعب اليابانى آخذ فى التناقص بشكل سنوى منذ عام ٢٠٠٨، وقد وصل عدد السكان هذا العام (٢٠٢٣) ما يزيد قليلا على ١٢٣ مليونا، لتفقد اليابان ما يقارب أربعة ملايين نسمة خلال ١٥ عاما تقريبا! وبناء عليه، أصبحت اليابان تعتمد بشكل كبير على الأجانب فى سوق العمل، حيث وصل عدد الأجانب المقيمين فى اليابان مع مطلع هذا العام نحو ثلاثة ملايين أجنبى، وقد بدأت اليابان تدريجيا فى تسهيل إجراءات عمل الأجانب لديها، رغم أن إجراءات الهجرة بشكل عام مازالت معقدة وأصعب من مثيلاتها فى الولايات المتحدة أو أستراليا أو كندا أو حتى دول الاتحاد الأوروبى! فى المدن الكبيرة يمكنك رؤية الأجانب بشكل يومى، ليس فقط فى المواقع السياحية، كما كانت الحال دوما، ولكن فى مواقع العمل والإنتاج والإدارة، وكذلك فى العديد من الأماكن الخدمية كالبنوك والمطاعم والمقاهى! والأمر لا يبدو أنه متقبل بسهولة! ذكر لى أستاذ بريطانى يعمل فى إحدى جامعات محافظة كيوتو منذ عام ٢٠٠٨ ومتزوج من يابانية منذ عام ٢٠١٦ ومقيم بالمدينة، أنه حتى الآن وحينما يترجل إلى محل سكنه من محطة الأتوبيس القريبة من منزله والقريبة أيضا من أحد المزارات السياحية فإنه مازال يتلقى تنبيهات من أحد المارة بينما يسير فى طريق المنزل، أنه ربما أخطأ الطريق وأن طريق المزار السياحى من الناحية الأخرى، ظنا من المارة أنه طالما أجنبيا فبالضرورة هو فى المنطقة للسياحة ومن المستبعد أن تكون وجهته مختلفة عن ذلك المعبد السياحى الموجود فى المدينة! هذا التعدد له تأثيرات واضحة على السلوكيات العامة فى الشارع اليابانى لا يمكن أن تخطئها العين العارفة باليابان، فالسلوك العام فى المواصلات وفى مستوى الخدمات فى المطاعم والمقاهى والأماكن السياحية أصبح مختلفا، ومن وجهة النظر اليابانية وبحسب المقاييس المتعارف عليها فقد أثر ذلك على الذوق العام، وعلى شكل الشارع، وعلى شكل التعاملات اليومية! قد يبدو هذا عاديا ومفهوما فى كل المجتمعات، لكن فى مجتمع عرف بمحافظته الشديدة على التقاليد وبمقاومته للتغيرات، فإن مثل هذه التغيرات لها هزة شديدة على الداخل اليابانى، لأن تعريف ما هو «يابانى» أصبح مختلفا عما كان الوضع عليه مسبقا، وهذا أمر آخر يجرنا إلى الحديث عن الهوية اليابانية وتأثرها بالأجنبى أو المختلف بشكل عام! فالهوية اليابانية ــ بحسب الكثير من الأشخاص المتخصصين فى الشأن اليابانى ــ لها تأثير كبير على عملية التنمية، إذ المعجزة اليابانية فى التصنيع والتكنولوجيا اعتمدت ــ ضمن عوامل أخرى ــ على الهوية اليابانية التى صنعت مقاييس لأن تكون موظفا أو أن تكون عاملا أو أن تكون قياديا، أو تابعا أو متبوعا، وفى بلد كانت نهضته بالأساس قائمة على مؤسسات الدولة التى أدارت شئون المجتمع نحو التنمية، فإن استثمار فكرة أن تكون «يابانيا» كمعيار للنهضة وكعامل للتحفيز والتخطيط والتنفيذ فى مجالات شتى كانت كلمة السر فى التقدم وتحقيق معدلات إنتاج عالية بدرجة كبيرة من الجودة والدقة والاتقان، فماذا يعنى أن تكون اليابان دولة ذات مجتمع متعدد ومختلف ولم يعد تعريف هويته اليابانية سهلا كما كان؟
أحمد عبدربه مدير برنامج التعاون الدبلوماسي الأمريكي الياباني
أستاذ مساعد العلاقات الدولية بجامعة دنفر.