تعيش مصر فى الوقت الحالى ثلاث حالات من الترقب. الأولى هى ترقب ما سيحدث فى الاقتصاد الوطنى والقرارات التى ستتخذ لمواجهة ما سيحدث، ثم أثر هذه القرارات على أداء الاقتصاد. الترقب الثانى يتعلق بالانتخابات الرئاسية وهى المناسبة الرئيسية فى أى نظام رئاسى أو شبه رئاسى. والترقب الثالث يتعلق بالنتائج التى سيخرج بها الحوار الوطنى ثم ما ستؤول إليه هذه النتائج. فى هذا المقال، نتناول الترقب الاقتصادى ونترك الترقبين الآخرين للمقال القادم.
الأزمة الممتدة التى تصيب الاقتصاد الوطنى جلية للكافة، فى الداخل والخارج، فى الداخل للمهتمين بالشأن العام، ولغير المهتمين به أو غير القادرين على متابعته لانشغالهم فى توفير الموارد الضرورية لمعيشة أسرهم. هؤلاء المواطنون والمواطنات يكفيهم دلالة على الأزمة الارتفاع المستمر فى الأسعار المترتب على التضخم الذى وصل فى شهر يونيو الماضى إلى 36,8%، ضاربا الرقم القياسى السابق وهو 34,2% المسجل فى يوليو 2017. المعدل المرتفع للتضخم لا بد أن يكون قد انعكس فى معدل الفقر بين المواطنين والمواطنات. آخر البيانات الرسمية المتوفرة عن معدل الفقر هو أنه سجل 29,7% فى 2020ــ2019 متراجعا من 32,5% فى 2018ــ2017. غير أن هذا المعدل الأخير كان قد ارتفع من 27,8% فى سنة 2015 نتيجة لمعدل التضخم المشار إليه فى سنة 2017. قدر ما يمكن أن يكون معدل الفقر قد بلغه وقد حقق معدل التضخم الرقم القياسى المشار إليه فى يونيو الماضى، هذا فضلا عن المواطنات والمواطنين الذين يعيشون بالقرب من خط الفقر، أى بالقرب من الفقر نفسه. هؤلاء يترقبون ولو شواهد على تحسن أحوالهم المعيشية، إن لم يكن تحسنها الملموس متاحا.
المواطنات والمواطنون الأوفر حظا الذين يتابعون مؤشرات الأداء الاقتصادى يشعرون بالانزعاج. لأسباب ضيق المساحة، دعك من مؤشرات النمو الاقتصادى والادخار والاستثمار، لاسيما الخاص منه، ونصيب القطاع الخاص فى الناتج المحلى الإجمالى، والدين العام الداخلى، مع عظيم أهميتها كلها. لنكتفى بمؤشرات الدين الخارجى وخدمته، وتوفر العملة الأجنبية، والميزانية. الدين الخارجى وصل إلى 165,2 مليار دولار بنهاية مارس 2023، يمثل 33% تقريبا من الناتج المحلى الإجمالى المتوقع تحقيقه فى 2023 وهو 497 مليار دولار. غير أن العبرة ليست بنسبة الدين الخارجى إلى الناتج المحلى الإجمالى بل بالقدرة على خدمة هذا الدين، أى ببساطة على توفر العملة الأجنبية الضرورية لتسديد أقساط أصل الدين وفوائده.
فى بيان للجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، انخفضت قيمة الصادرات المصرية فى إبريل الماضى بنسبة 44% مقارنة بإبريل السابق عليه. صندوق النقد الدولى قدر فجوة العملة الأجنبية الضرورية لتمويل خدمة الدين والواردات الاستثمارية والاستهلاكية بـ17 مليار دولار. تقدير آخر وصل بهذه الفجوة إلى 20 مليار دولار فى السنة الجارية وإلى 29 مليار دولار فى سنة 2024. فى وجود هذه الفجوة، كيف يمكن خدمة الدين الداخلى؟ فى النصف الثانى من هذا العام وحده، البنك المركزى قدر خدمة الدين بما يتعدى الـ15 مليار دولار، منها 3,86 مليار دولار لديون قصيرة الأجل و11,38 مليار دولار لديون طويلة الأجل. الحكومة كانت قد أعلنت عن عزمها بيع أصول لمستثمرين عرب وأجانب، وفى اتفاقها مع صندوق النقد الدولى فى شهر ديسمبر 2022 أعلنت أنها ستبيع مؤسسات مملوكة للدولة بما قيمته 2,5 مليار دولار بنهاية يونيو 2023، إلا أنها أعلنت فى يوليو أنها لم تبع إلا ما قيمته 1,9 مليار دولار، سدد منها 1,65 مليار فقط بالعملة الأجنبية.
الترقب لدى الرأى العام المتابع ولدى المجتمع السياسى والاقتصادى هو أن تتخذ الحكومة القرارات الضرورية لكى لا تضطر للتوقف عن السداد من جانب، ولكى تحول دون مزيد من التضخم وتفاقم الأزمة الاقتصادية على الناس وتدهور مستوى معيشتهم، من جانب آخر. الاكتفاء بتصدير ما يمكن توفيره من الغاز الطبيعى لتوجيه إيراداته لخدمة الدين وسد الفجوة فى العملة الأجنبية ليس كافيا، علاوة على أنه ليس اختيارا موفقا، فأثره على توفير خدمة الكهرباء بالكاد يحتاج إلى التعليق. أى دولة حديثة هذه التى لا تستطيع توفير الكهرباء لمواطنيها، اللهم إلا إذا كانت من فئة البلدان الأقل نموا؟ والغريب حقا فى هذا الاختيار أنه، سياسيا، قطع الكهرباء يزيد من شعور الناس بالأزمة وبأن بلدهم قد انعدمت بها الحيل لمواجهتها. والأنكى من ذلك، أن الانتباه الضرورى لم يمنح لأثر انقطاع الكهرباء على الدخل القومى أو الناتج المحلى الإجمالى، وهما مفهومان قريبان من بعضهما البعض. السياحة، التى تجنبها الدولة انقطاع الكهرباء، ليست إلا مصدرا واحدا للدخل القومى، وهو مصدر يعتمد على الإنتاج فى قطاعات أخرى. السياحة ليست جزيرة منفصلة عن باقى الاقتصاد. وماذا عن إنتاج السلع والخدمات التى تتوقف عليها معيشة المصريات والمصريين، وعن تلك السلع والخدمات التى تصدر فتأتى هى أيضا بالعملة الأجنبية الضرورية للاقتصاد؟ وحتى إن صحت حجة أن انقطاع الكهرباء يتفادى مواقع الإنتاج والمستشفيات وما على شاكلتها، وهو لا يمكن أن يصح تماما، فماذا عن العمال والمهنيين، من أدناهم مهارة إلى أعلاهم، الذين يؤثر فيهم انقطاع الكهرباء فتتأثر إنتاجيتهم سلبيا؟
ومن بعد ذلك كله، فيما يفيد الانتظار لاتخاذ القرارات موضوع الترقب، وكأنما هو انتظار جودو الذى لم يأتِ أبدا عند صامويل بيكيت؟ مصر أعلنت أنها لن تلجأ إلى تعويم عملتها، كما اتفقت على ذلك مع صندوق النقد الدولى، لأثر التعويم على التضخم وما يرتبه من ارتفاع فى الأسعار ونتائج وخيمة على الشعب المصرى. تشخيص أثر التعويم على التضخم صحيح تماما ولقد خبرته مصر مرتين فى السنوات السبع الماضية. الأمين العام للأمم المتحدة نفسه وصف النظام المالى الدولى بأنه مفلس أخلاقيا.
إلا أن إصلاح هذا النظام أو تغييره كما يدعو إلى ذلك البعض، شىء، وخدمة الدين المستحق على مصر أو على غيرها شىء آخر. تغيير النظام المالى الدولى، أو الأرجح إصلاحه، مسألة متوسطة المدى على أفضل تقدير تخص أطراف النظام الدولى كلهم على اختلاف مصالحهم وقوة كل منهم. أما تسديد خدمة الدين فهو مسألة آنية يتوقف عليها أداء الاقتصاد ومعيشة الناس. الاكتفاء بالتنديد بالتعويم والامتناع عنه ليسا كافيين. مجرد الامتناع وعدم فعل شىء غير قطع الكهرباء، وزيادة تصدير ما تيسر من الغاز الطبيعى، ووفورات حكومية هامشية هنا وهناك، لا يمكن أن يؤدى إلا إلى نتيجة من اثنتين، أو إلى الاثنتين معا بنسب متفاوتة، فى ظل الفجوة فى العملة الأجنبية والعجز فى الأصول الأجنبية للجهاز المصرفى الذى أعلن البنك المركزى أنه ارتفع بمقدر 2,66 مليار دولار ليتجاوز الـ 27 مليار دولار فى يونيو الماضى. النتيجة الأولى هى استمرار التضخم نتيجة للاستدانة التى خططت لها ميزانية 2024ــ2023 كإيرادات لتمويل النفقات العامة. يلاحظ أن هذه الاستدانة تصل إلى 49% من الإيرادات العامة، وخدمة الدين العام، الداخلى والخارجى، تمثل 56% من النفقات العامة. النتيجة الثانية هى تراجع النشاط الاقتصادى نتيجة لعدم القدرة على استيراد السلع الرأسمالية ومدخلات الإنتاج لنقص العملة الأجنبية.
كل القرارات صعبة، وعدم اتخاذها أكثر صعوبة. ينبغى إيلاء التفكير الجاد لإعادة جدولة الديون وخدمتها، وكذلك لعملية التفاوض بشأن هذه الإعادة، حتى يمكن التوصل إلى برنامج تستطيع الدولة تنفيذه ويتفادى أى آثار سلبية يمكن أن تنشأ عن إعادة الجدولة. هذا البرنامج لا بد أن يسمح بتخفيض أقساط خدمة الدين، وبتوسيع ما صار يسمى بالحيز المالى بغية زيادة مخصصات الميزانية للسياسات الاجتماعية من جانب، وللسياسات الصناعية من جانب آخر. السياسات الاجتماعية من أجل تلبية احتياجات الناس وبناء رأس المال البشرى الذى تحتاجه عملية التنمية ولكى يرى المواطنون والمواطنات شواهد على التحسن المأمول فى ظروف معيشتهم. السياسات الصناعية، المفصلة والمتميزة كل حسب القطاع الذى تخصه، والتى تلقى التمويل الكافى، ضرورية تماما كجزء من السياسات الاقتصادية التى لا يمكن أن تقتصر فعليا على السياستين المالية والنقدية. السياسات الصناعية هى التى ستؤدى إلى تنوع الاقتصاد، وإلى نمو إنتاجيته، بحيث يمكن تنفيذ برنامج إعادة الجدولة ثم مواصلة النمو والتنمية. العزم على إعادة جدولة الديون أفضل من القعود عن أى فعل.
الدولة مدعوة إلى أن تتحرك وأن تتخذ القرارات وأن تنفذها، وأن تستعين فى سبيل ذلك بالاقتصاديين والسياسيين، نساء ورجالا، ذوى المعرفة والخبرة بالنظامين المالى والنقدى الدوليين.
معيشة المصريات والمصريين، وهم مصر، تتوقف على هذا التحرك.
إبراهيم عوض
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة