في محاولة لتقديم الوجه الآخر لتونس بعيداً عن الصور النمطية التي يحملها البعض عنها، وجد زوار المعرض الدولي للكتاب والصحافة بجنيف أنفسهم على موعد يتعدى الإصدارت الجديدة المتنوعة التي أصبحت في متناول القارئ التونسي بعد "ثورة الياسمين" أو "ثورة 17 ديسمبر - 14 يناير"، إلى معارض فنية ومحاضرات وندوات حوارية وأنشطة ثقافية متنوعة أخرى، جاءت لتعكس الثراء الفكري والثقافي وعنوان "ما كشفته الثورة التونسية" الذي رفعه الجناح كشعار لموضوع المشاركة.
ووفقاً للدكتور عادل خضر، مسؤول الجناح ومدير معرض تونس الدولي للكتاب "وقع اختيار القائمين على الجناح الذي نظمته وزارة الثقافة والمحافظة على التراث التونسية على الأحداث الثقافية التي ظهرت في تونس بعد الثورة. وعلى سبيل المثال، يُمكن للزائر متابعة حوار مع ورشة كتابة لمؤلفين شبان يبحثون عن سبل جديدة في الكتابة السردية يسمون أنفسهم ‘أناس دي كاميرون’، ومجموعة اخرى من الشعراء التونسيين الشباب الذين أطلقوا مشروع الحركة الأدبية ‘حركة نص’، والتي اختير لتمثيلهما أشخاص يجيدون التحدث بالفرنسية".
كما تضمَّن برنامج الجناح تسليط الضوء على أحداث تاريخية مهمة مثل ذكرى مرور 170 عام على إلغاء الرق في تونس "التي تعكس تغلغل التعطش للحرية والمناداة الدائمة للسلم في تاريخ البلاد"، بحسب الدكتور خضر، فضلاً عن الإحتفال بالمفكر والمصلح التونسي الطاهر الحداد وبالرباعي التونسي الراعي للحوار الوطني الفائز بجائزة نوبل للسلام، "مما يخلق ترابطاً بين الأحداث التاريخية والأحداث الراهنة المرتبطة بالثورة"، كما قال.
التنويع كان سمة بارزة في برنامج الجناح التونسي، حيث لم يقتصر المعروض على الكتاب والصحافة فحسب ولكنه شمل كامل الجانب الثقافي حيث "نجد فضاءً للمعارض الفنية، تعكس كل ما أنتجه المبدع التونسي على مستوى الفنون التشكيلية، ومساحة مخصصة للسينما، بالإضافة إلى ورشة لصناعة الخزف مخصصة للأطفال، وورشة للكاريكاتير ومعرضا للخط العربي، مما يجعل الجناح التونسي فضاءً حيوياً ومتكاملاً"، بحسب مدير الجناح.
بدوره، أشار الدكتور محمد صالح معالج رئيس اتحاد الناشرين التونسيين إلى مشاركة نحو 36 دار نشر تونسية في الجناح، وتوفير أكثر من 800 عنوان لإصدارات "جاءت متنوعة وشاملة لجميع المواضيع، سواء السياسية أو الإجتماعية أو الفلسفية أو الطبية أوغيرها، راعينا في اختيارها إعطاء لمحة عن حركة النشر والكتاب وإصدارات الناشر التونسي"، على حد قوله.
معايير الإختيار
بحسب الدكتور خضر، إعتمد الجناح في إختياراته للإصدارات ودور النشر والمثقفين المشاركين في الجناح معيارين، هما مدى تمثيل هذه العناصر لشعار ‘ما كشفته الثورة التونسية’، وإجادة الشخص الذي يُلقي المحاضرة أو الندوة الحوارية للغة الفرنسية "لأن الجمهور الذي يزور الجناح يتكلم الفرنسية". ومع أنه أعرب عن تمنياته بمشاركة مؤلفين تونسيين يكتبون بالعربية "لكن هذا يقتضي وجود مترجمين، وهو ما يتجاوز طاقة وزارة الثقافة. لذا إرتأينا إختيار أشخاص يجيدون الفرنسية ربحاً للوقت والأتعاب - وهو ليس صعباً في تونس لإتقان كل المثقفين تقريباً للغة الفرنسية"، على حد قوله.
من جانبه، شدد محمد معالج على عدم إقصاء أي ناشر عبَّر عن رغبته في المشاركة في التظاهرة، وقال: "كاتحادٍ للناشرين التونسيين، قمنا بتعميم المعلومة على جميع الأطراف الفاعلة بهذا المجال، مما أتاح فرصة المشاركة لكل ناشر راغب في ذلك. كما بادرنا بالإتصال بناشرين لديهم كتب مميزة لم يتصلوا بنا، وحاولنا إشراكهم وعَرض كتبهم بغية الخروج بتغطية كاملة تقريباً للكتاب التونسي".
أدب عربي بنكهة فرنسية
تَفَوُّق نسبة الإصدارات الفرنسية على العربية كان واضحاً في الجناح. وعند سؤاله من قبل swissinfo.ch، علَّق د. خضر بالقول :"لقد حاولنا إعتماد التكافؤ. لكن ما لا يقل عن 90% من زوار الجناح يتقنون اللغة الفرنسية، وقد راعينا هذا الجانب لأهميته التجارية للناشرين، مع ذلك حاولنا مراعاة التوازن بين اللغتين في منشورات وزارة الثقافة". وأضاف أن "هدفنا الرئيسي هو عرض أكبر كمية مُمكنة من الإنتاج التونسي في السنوات الأخيرة، وليس صناعة قارئ يقرأ بالعربية، إذ من الصعب أن نصنع قارئا عربياً في ثقافة فرنسية وألمانية [مثل سويسرا]"، حسب قوله.
هذا الرأي أيّده محمد معالج الذي قال: "سويسرا دولة فرنكوفونية، وبحكم تجربتنا في المعارض مثل معرض باريس، تفوق نسبة الإقبال على الكتاب الفرنكوفوني نظيره العربي، وهو ما جعلنا نركز على الإصدارات الفرنسية بشكل أكبر".
إقبال ضعيف على القراءة
كما هو الحال في معظم العالم العربي، يتصف الإقبال على الكتاب في تونس بتواضعه الشديد. وبحسب إحدى الدراسات التي أجراها معهد ‘إمرود كونسيلتينغ’ التونسي لسبر الآراء مؤخراً، لا يتوفر 79% من التونسيين على كتاب في منازلهم (بخلاف الصحف والمجلات والكتب المدرسية والمصحف الشريف)، فهل جاء التوجه لإيجاد سوق خارجية كنتيجة لضعف إقبال المواطن التونسي على المطالعة أيضاً؟ محمد معالج يؤكد هذا الرأي، ويقول: "في تونس - كما في جميع الدول العربية - هناك تراجع كبير في القراءة والبحث عن الكتاب، وهذا يعود لعدة أسباب، أولها عدم تشجيع الطفل على الإهتمام بالكتاب، وعدم إهتمام محيطه بالكتاب، وغياب عنصر المطالعة في معظم البرامج التربوية في الدول العربية، وهو ما ينتج جيلا لا يقرأ، لأن صناعة القارئ تبدأ منذ سن الطفولة".
وبحسب معالج يعود السبب الثاني إلى صناعة الكتاب، ذلك أن "هذه الصناعة عبارة عن سلسلة مترابطة الحلقات بدءاً بالكاتب ووصولاً للقارئ، مروراً بالمطبعي والناشر والموزع والمكتبي. وفي العالم العربي هناك إفتقار لحلقتين مهمتين - أو أنها ضعيفة جداً لو وُجدت - هي الموزع والمكتبي، مما أربك توازن هذه السلسلة. وبالتالي، يضطر القارئ غالباً - وحتى مع عثوره على المادة التي يود مطالعتها - إلى إنتظار المعارض السنوية للكتاب في دولته ليقتني ما يحتاجه. وكما أظهرت الإحصائيات في الدول العربية فان مصدر 70% من الكتب التي يتحصل عليها القارئ العربي هي معارض الكتب. أي حتى لو وُجِد من يرغب بالقراءة، لكن المكان الذي يمده بالكتاب الذي يبحث عنه مفقود".
تغييرات ما بعد الثورة
وفقاً لمدير الجناح التونسي، حدثت هناك تغييرات كبيرة في حركة النشر والطباعة خلال الأعوام الخمسة الأخيرة التي أعقبت اندلاع الثورة التونسية. "على مستوى دور النشر، تشير الإحصائيات إلى ارتفاع عددها من 124 في عام 2011 الى 234 في عام 2015. كما نجد إختلافاً في نوعية الإصدارت التي بدات تظهر، حيث يُنشر اليوم كل شيء بحرية مهما كان نوع الكتاب، حتى وإن كان يتضمن المحرمات الثلاثة الجنس والدين والسياسة"، على حد قوله.
ومع تأكيد محمد معالج على توفر حرية تامة في التعبير والنشر والتفكير حاليا في تونس، وارتفاع عدد الإصدارات بعد الثورة، لكنه لفت الإنتباه إلى وجود أزمة نشر كبيرة ناتجة عن الأزمة الإقتصادية التي تعاني منها البلاد، وظهور عدة مشاكل تحد من قدرة الناشر على نَشر كل ما يُعرض عليه، رغم وجود هذه الحرية في التعبير وغزارة المادة الفكرية وتميُزها. ويقول معالج: "هذه المعوقات مادية بالدرجة الأولى، وهي ترجع بدورها إلى عدم وجود سوق، مما يُعيدنا إلى مسألة أهمية مجيئنا للمعرض للبحث عن سوق".
في ظل هذه المعوقات، يرى رئيس اتحاد الناشرين التونسيين أنّ مستقبل الكتاب ودور النشر في تونس مرتبط أساسا بتغيير الإرادة السياسية للدولة، التي يرى ضرورة إيجادها لاستراتيجية جديدة وحلول جذرية لدعم توزيع الكتاب على الصعيد الوطني وتصديره للخارج، ويقول: "على الدولة أن تتبنى نظرة جدية وجديدة للثقافة إجمالا والكتاب على وجه الخصوص للتغلب على المعوقات التي تعترض طريق الكتاب، ومنها تراجُع دَور الدولة في دعم هذه الصناعة. وينبغي إتباع سياسة وطنية واضحة تشارك في وضع معالمها كل الأطراف المعنية"، حسب رأيه.
ومع كل هذه الجهود المبذولة، هل نجح برنامج الجناح في إحتواء كامل الطيف الثقافي التونسي من خلال إصداراته ومدعويه من المثقفين، أم ان إصدارات معينة أو فريقاً ما استُبعد من المشاركة كما يرى البعض؟ محمد معالج شدد على عدم إقصاء اتحاد الناشرين التونسيين لأي إصدار، مؤكدا على أن إختيار الكتاب المشارك كان مُوكلاً للناشر، وأضاف أنه "إذا كان ثمة غياب لمواضيع معينة فلأن الناشر لم يبادر بعرضها". كما قال،
أخيرا لفت رئيس اتحاد الناشرين التونسيين إلى أن "الشعار المتداول في تونس اليوم هو المصالحة الوطنية. وما نفخر به هو أنَّ التونسيين شعب مثقف. لقد إنطلقت شرارة الثورة من تونس، ومع أن مخلفاتها مازالت قائمة في العديد من الدول الأخرى، لكن تونس ظلت أقل الدول تضرراً، وهذا لم يأت بالصدفة ولكنه ناتج عن تحضّر الشعب ووعيه، كما عرف رجال السياسة والأحزاب كيفية تغليب مصلحة الوطن على المصالح الحزبية الضيقة"، على حد قوله.
رواق الثقافات العربية
للعام الثالث على التوالي، يحتل رواق الثقافات العربية مكاناً راسخاً على أرض قصر المعارض ‘باليكسبو’ في جنيف.
وبحسب آلآن بيطار، مؤسس المكتبة العربية ‘الزيتونة’في جنيف والمسؤول عن قسم المكتبة في الرِّواق، فقد "فاقت المساحة المخصصة للرواق هذا العام العامين الماضيين لتصبح 800 متر مربع. وبمشاركة نحو 500 دار نشر، ويعرض الرواق نحو 3000 عنوان". ومع أن غالبية الكتب المعروضة كانت بالفرنسية، (7% فقط بالعربية) لكن الرواق "أولى الأهمية الكبرى للتنويع لتعريف الزوار بالثقافة العربية" بحسب السيد بيطار.
وفقاً لـ يونس جراي، المسؤول عن تنظيم وإدارة وبرمجة رِّواق الثقافات العربية فقد "تمحورت مواضيع جميع الندوات الحوارية في الرواق حول أدب الكُتّاب المسافرين والمهاجرين ومراحل تطوره، بدءاً بأدب الرحلات الذي يعتبر نقطة انطلاق الرواية في تاريخ الأدب العربي، ووقوفا عند مرحلة الإستعمار في القرن العشرين، وتوجّه عدد من الكتاب العرب الى الغرب مثل جبران خليل جبران وطه حسين وألبير ميمي وغيرهم من الذين سجلوا تاريخ ولادة الرواية في الثقافة العربية. ويعقب ذلك استقرار جيل آخر في الغرب في أعوام الخمسينيات والستينيات نتيجة الظروف الإقتصادية والسياسية والذين بدأوا يكتبون الرواية بشكل جديد أيضاً، ثم ظهور نوع آخر من الرواية في حقبة الثمانينيات وحتى عام 2000 أنتجه أبناء المهاجرين في الشتات، والتي إختلفت بدورها بسبب نشأة هؤلاء في دول المهجر واختلافهم الإجتماعي والثقافي بالتالي. ثم ننتهي إلى نوع برز أخيراً في الأدب العربي هو ‘أدب المهاجرين’ الناتج عن ظروف المنطقة العربية الحالية حيث نرى في الوقت الراهن مجموعة من الإصدارات التي تتحدث عن أحوال هؤلاء والأحداث الجارية في بلادهم".